بشارة الملاك لزكريّا هي محطّة جديدة في تاريخ الله مع شعبه، مع كلّ واحد منّا، يقول لنا أنّه لم يملّ ولن يملّ من محاولة إنهاضنا من جديد بالرغم من خياناتنا المتكرّرة. يدخل حياتنا ويحوّل عقمنا إلى حياة، لأنّه القادر على إعطائنا الحياة.
لم يضرب الله الزوجين بالعقم بسبب خطيئة اقترفاها، فالله هو ربّ الحنان، هو أب والأب لا يضرب أولاده ولا يجعلهم يحيون العقم، لا يمكن لإله المحبّة أن يجعلأولاده يحيون شعور الفشل القاتل، ويُفرغ حياتهم من معناها. ولكنّها كانت قناعة المجتمع كلّه، يظنّون أن العقم هو عقوبة إلهيّة. قد يمكن أن نفهم عقليّة أشخاص عاشوا في الماضي، ولكنّ السنا مثلهم نحن اليوم؟ كم من المرّات ننظر إلى الله كإله قاس، نخاف منه، نخشاه، علاقتنا به هي علاقة العبد مع سيّده لا علاقة الإبن بأبيه. نشوّه كلّ يوم صورة إله المحبّة، ونحوّل علاقتنا به إلى علاقة رعب، فتصير روحانيّتنا وسواساً، وصلاتنا فرضاً، والتزامنا واجباً. كم نتصرّف مثل جيران اليصابات حين ننظر إلى الآخرين بفوقيّة، نرى في ضعفهم خطيئة، ندينهم، نحتقرهم، نهمّشهم، نرفضهم أو نتكلّم عنهم. وننسى أن كلّ إنسان هو مشروع خلاص إلهيّ، يدخل الله حياتهم في لحظة لا أحد يتوقّعها، كما دخل في حياة اليصابات فحوّلها من حياة عقم وألم، إلى حياة فرح بالثمرة التي أعطتها، ثمرة سوف تكون صوتاً يسبق الكلمة، صوتاً يصرخ في العالم، ويعلن أن قد اقترب تجسّد الكلمة. فهل نقدر أن نرى هذا ممكناً في حياة من نحتقرهم كلّ يوم؟ لقد قضى زكريّا حياته يطلب، يصلّي ويتضرّع، وحين حلّت لحظة استجابة صلاته، اضطرب وامتلأ قلبه خوفاً. لم ينقص زكريّا الإيمان النظريّ، فقد كان يعلم أن الله موجود، وكان يؤمن بعمله في تاريخ شعبه. ما كان ينقص في زكريّا هو الإيمان بعمل الله في حياته هو. لقد آمن الكاهن طوال سني حياته بإله عظيم، عالٍ، محجوب عن أنظار البشر، فكان لا بدّ من لحظة دخوله قدس الأقداس ليعلم أن الله يدعوه إلى علاقة تتخطّى الإيمان النظريّ والجماعيّ، الله يريد من زكريّا الإيمان بإله يدخل في علاقة شخصيّة معه، علاقة أب بابنه، علاقة صديق بصديقه، علاقة حبّ لا تنتهي. لقد تجلّت رحمة الله في حياة زكريّا، رحمة طالما طلبها زكريّا، صلاة كان يردّدها قبل لحظات مع تقديم البخور: “لتقم صلاتي كالبخور أمامك، ورفع يديّ كذبيدة مسائية“. وحين استجاب الله، خاف الشيخ، لم يكن يتوقّع أن يدخل الله في حياته، خاف من ضعفه ومن عدم استحقاقه، خاف من نواقصه، فكان جواب الله له: “لا تخف”. كلمة سمعها فاطمئن قلبه، كما سمعها قبله إبراهيم (تك ١٥/ ١) وأشعيا (أش ٤١/ ١. ٤)، وسوف يسمعها التلاميذ تخرج من فم الرّب القائم. هي كلمة يجب أن نسمعها نحن أيضاً، حين يلمس الرّب قلبنا، ويظهر عظمته في حياتنا من خلال الأحداث اليوميّة. يطلب الله منّا، كما طلب من زكريّا، أن لا نخاف حضوره في حياتنا، فهو لم يأت ليحرم قلبنا الفرح، ولا ليحّطم أحلامنا ومشاريعنا، بل يدخل حياتنا ليعطينا ملء الحياة، ليعطي وجودنا معنى، ويحوّل عقم وجودناإلى حياة وفرح ورجاء.
هذه البشارة اليوم هي كلمة الله لكلّ واحد منّا: نحن زكريّا، يدعونا الله أن نؤمن، وأن ندخل في علاقة شخصيّة معه، أن نحوّل صلاتنا من مجرّد واجب وعادةإلى لقاء حبّ وثقة.نحن اليصابات، يقول لنا الرّب أنّه قادر على تحويل واقعنا من واقع يأس وموت إلى واقع حياة ورجاء. الله يقدر على إعطاء رحمنا الرّوحيّ جنين قداسة، ويقدر على تحويل شيخوختنا من حالة تعب يسبق الموت إلى حالة رجاء ومصدر حياة ورجاء لنا وللآخرين.
وفي نهاية الامرنحن يوحنا، يرسل الله علامة رجاء وأمل للآخرين كما أرسل يوحنا إلى حياة العجوزين فبدّل واقعهما. يدعونا اليوم إلى حمل رسالة فرح وتشجيع لكلّ من نلتقي به ومن يضعه الرّب على درب حياتنا. يدعونا لنتجسّد في حياة الآخرين ، كيوحنا السابق للمسيح، يأتي ليعدّ له الطريق، ويدعونا لنهيّئالآخرين لقبول المخلص في حياتهم. هي دعوة لنا لنثق بالله، ونحمله في حياتنا، ليعلم الجميع، من خلال شهادة حياتنا ووفائنا، أن الله حاضر، وأنّه لا يزال يعملإنه العمانوئيل.