فاز الكاتب والروائي الفرنسي “باتريك موديانو” بجائزة نوبل للآداب لعام 2014. وقد قالت الأكاديمية السويدية: “إن موديانو كرم بفضل فن الذاكرة الذي عالج من خلاله المصائر الإنسانية الأكثر عصيانا على الفهم، وكشف عالم الاحتلال”. ولأن الكثيرين مثلى لم يحالفهم الحظ لمعرفة هذا الكاتب من قبل، فقد كان إعلان فوزه بالجائزة مثيرا لسؤال مباشر وهو: من يكون هذا الكاتب المتميز الذى لم يكن معروفا كآخرين من كتاب الرواية؟ وربما يكون الأمر المحرج بالنسبة لمحبى الأدب الروائى هو أن تذهب الجائزة لكاتب لا يعرفونه، فإما أن يكون هناك خطأ من تقدير الأكاديمية لأهميته مقارنة بغيره من الكتاب، أو تقصير من جانب البعض منا بسبب جهلنا بكاتب مرموق، أو بسب الحاجز اللغوى وعدم وجود ترجمات كافية لأعماله إلى اللغة العربية. وعلى الفور بدأت التساؤلات حول أعمال موديانو، وعلى ما يبدو أن الرغبة فى قراءة أعماله جاءت أقرب للرغبة فى التثبت من أنه يستحق أن يفوز بالجائزة أكثر من التشوق إلى قراءة أعمال أدبية للاستمتاع بها. ولذا فإن القراءة فى هذه الحالة لا تخلو من التربص ونية إصدار أحكام وعقد مقارنات مع كتاب آخرين نعرفهم وكنا نتوقع فوزهم بالجائزة.
وبهذه الروح المترقبة، قرأت العمل الذى أتيح لى باللغة العربية وهو رواية شارع الحوانيت (أو الدكاكين) المعتمة. وفى حين كان هدف القراءة الأساسى هو استكشاف الكاتب الذى أتعرف عليه لأول مرة، إلا أن الاستكشاف بدا مهمة صعبة مع المضى فى قراءة الرواية، فهى، كما قيل، عبارة عن رحلة فى عتمة البحث عن الجذور والهوية الضائعة. فبطلها يطوف بنا فى الحاضر فى شوارع معتمة ومع شخوص ضبابية بحثا عن هويته ، وينقلنا إلى الماضى بحثا عن جذوره التى ضاعت فى ذاكرته المفقودة، فيصبح الحاضر سطحا بلا أفق والماضى بئرا بلا قاع. ولعل الملفت للنظر فى هذه الرواية ليس الموضوع أى البحث عن الجذور فهو من الموضوعات المألوفة فى الأدب، ولا جمال العبارات حيث أزعم أن السرد عنده أقرب للغة المباشرة ذات الطابع الإخبارى والتقريرى أحيانا لدواع أدبية، أما الملفت للنظر فهو الحبكة وقدرة الكاتب أن يجعلنا نستسلم لذاكرة مفقودة، ونواصل القراءة فى متاهات معتمة فى دوران حول ذات بلا هوية.
وبعد الإنتهاء من قراءة الرواية اكتشفت أننى نسيت المهمة الأساسية والتى من أجلها قرأت وهى استكشاف الكاتب، فلم أستطع الخروج بموقف واضح، هل يستحق هذا الكاتب الذى لا أعرفه جائزة نوبل، أم أن أحدا من نعرفهم من الروائيين البارزين كانوا أحق منه بها. ولكن ما يمكن قوله من باب الموضوعية هو وجود سببين يجعلان الموقف غائما: أولها: أنه يصعب الحكم على أعمال كاتب ما، وخاصة من قبل قارئ عادى، من خلال قراءة عمل واحد، فلابد من قراءة أكثر من عمل، وقد يكون لهذا الأمر أهمية خاصة عند قراءة مثل موديانو الذى قيل عنه أنه كتب معظم أعماله وكأنها عمل واحد، أى رحلة واحدة للبحث عن الجذور ولكن بأوجه متعددة؛ ثانيا: أن مدينة باريس هى عالم موديانو، وهو ما قد يُصعِب على القراء الذين لم يألفوا هذه المدينة فى ماضيها وحاضرها أن يستشعروا بعض جماليات الكتابة عنها وعن شوارعها ومقاهيها وأجواءها، تماما مثلما كانت القاهرة هى المجال الحيوى لأعمال نجيب محفوظ، مما قد يجعل من الصعب على قراء من بلدان أخرى أن يدركوا جماليات الكتابة عنها.
أعتقد أن كثيرين مثلى فى حاجة إلى قراءة أشمل لأعمال موديانو للتعرف عليه من خلال متاهات الذاكرة أو للتعرف على متاهات الذاكرة من خلاله. ولكن الخشية، بالنسبة لقراء العربية، أن يؤدى التعجل فى طرح أعماله، التى لم يترجم منها إلا القليل، أن ينتهى بنا الحال إلى قراءة ترجمات غير جيدة أو رديئة.