أكثر من 17 إصدار يقدمها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الحالية. ولكني أرى أن كتاب الناقد الأستاذ عصام زكريا (سينما جارسيا ماركيز ) أهم هذه الاصدارات بلا منازع، نظرا للثقافة الموسوعية التي يتميز بها عصام وعشقه الكبير للسينما والأدب.
وعن هذا الكتاب يقول عصام زكريا – رئيس لجنة اختيار الأفلام بمهرجان القاهرة: “لم أكن أتصور، عندما فكرت في إمكانية تأليف كتاب عن علاقة الأديب الكولومبي الراحل جابريل جارسيا ماركيز بالسينما، أنني في سبيلي إلى دخول متاهة لا أستطيع، ولا أريد، الخروج منها.
بدأ الأمر عصر ذات يوم في شهر إبريل الماضي، 2014، بعد أيام قليلة من رحيل الأديب الكبير عن عمر يناهز السابعة والثمانين.
لقد ظل جابريل جارسيا ماركيز على مدار عقود من عمرنا أهم وأشهر وأقرب أديب عالمي إلى قلوبنا، في مكانة توازي، لأسباب كثيرة، المكانة التي يتمتع بها نجيب محفوظ على المستوى العربي.
ومثل نجيب محفوظ، لم يكن جارسيا ماركيز أديبا ميتا. كان يبدع وينشر أعماله وكنا نتلهف صدور ترجمتها العربية ونتلقفها بمجرد نزولها إلى الأسواق، ونقضي الساعات في الحديث عنها وتقييمها ومقارنتها بأعماله السابقة.
لم يكن جارسيا ماركيز كاتبا شبحا، لا نعرفه سوى من خلال كتبه، ولكنه كان حاضرا في المشهد الثقافي والسياسي العالمي، وكنا نستمتع بقراءة حواراته وأخباره مثلما نستمتع بأعماله الأدبية.
لقد دهشت أثناء إعداد هذا الكتاب، عندما علمت أن كثيرا من اليابانيين يعتبرون أن جارسيا ماركيز كاتبا يابانياً.
جارسيا ماركيز كان بالنسبة لنا، دائما، كاتبا عربيا!”
ويضيف عصام: “خلال أكثر من عشرين عاما من متابعة السينما العالمية والكتابة عنها وقع في طريقي عدد من الأفلام المقتبسة عن أعمال جارسيا ماركيز، منها فيلم “مربية الحمام الجميلة” الذي عرض في دورة سابقة من مهرجان القاهرة، ومنها “الحب في زمن الكوليرا” الذي كان بمثابة صدمة مؤسفة لعشاق جارسيا ماركيز، ومنها آخر عمل سينمائي مقتبس عن قصصه وهو “ذاكرة غانياتي الحزينات” الذي ترددت عنه بعض الأخبار الصحفية (الفضائحية)
كان طبيعيا أن تهتم السينما العالمية بجارسيا ماركيز، ولكن المدهش هو إهتمامه بالسينما، الذي لم يقتصر على كتابة عدد من سيناريوهات الأفلام، ولكنه امتد إلى المساهمة في تأسيس مدرسة للسينما في كوبا، وتنظيم عدد من ورش الكتابة السينمائية نتج عنها ثلاثة كتب قام بترجمتها إلى العربية الأستاذ صالح علماني الذي طالما أمتعنا بترجمته لمعظم أعمال جارسيا ماركيز.
بجانب هذه الورش والكتب، ولسبب آخر مختلف، ارتبط اسم جارسيا ماركيز بالسينما، وهو أن ابنه الأكبر رودريجو أصبح مخرجاً لامعاً في أمريكا اللاتينية وهوليوود.. ورغم أنه لا يعمل كثيرا إلا أن الأفلام القليلة التي قام بصنعها كانت ملفتة في طرق سردها وموضوعاتها والحساسية المختلفة التي تحملها.
عندما رحل جارسيا ماركيز، بدأت في كتابة مقال لصحيفة “أخبار الأدب” عن الأفلام التي اقتبست عن أعماله، وعن تأثير السينما في أدبه، وعن حبه لفن السينما الذي تبدى في تصريحاته ونشاطاته. ولاحظت وقتها – للمرة الأولى – أن الموضوع كبير ومتشعب، وأنه يحتاج إلى مزيد من الوقت والبحث عن المصادر.
فكرت أيضا في إصدار كتاب، أو كتيب، عن علاقة جارسيا ماركيز بالسينما من خلال مهرجان القاهرة السينمائي سيكون لفتة طيبة و تكريما يليق بإسمه وبالمهرجان في انطلاقته الجديدة.
يومها، وقبل أن يخفت الحماس أو أنشغل بأمور أخرى، اتصلت بالأستاذ سمير فريد رئيس المهرجان، وعرضت عليه الأمر، فرحب ولم يقل سوى جملة واحدة: “فكرة رائعة. نفذها على الفور!”
ومن يومها وأنا أشعر أنني دخلت مغارة علي بابا – الممتلئة بالكنوز، ثم نسيت “كلمة سر” الخروج.”
ويؤكد الكاتب أن أول اكتشاف هو أن الأديب الذي كتب عنه له ما لا يقل عن عشرة روايات وأربعة مجموعات قصصية وله أكثر من خمسين فيلما تحمل إسمه كمؤلف للقصة الأصلية أو كاتب سيناريو. غير الأفلام التي تحمل إسمه كمشرف على السيناريو، أو الأفلام الوثائقية التي صنعت عنه أو التي ظهر ليتحدث فيها…ومن بين هذه الأفلام المتنوعة وجد فيلماً قديماً يعود إلى الستينيات قام جارسيا ماركيز بكتابة السيناريو وساعد في مونتاجه، وقام بالتمثيل فيه مع عدد من المشاهير منهم المخرج والمؤلف السينمائي الأسباني الكبير لويس بونويل!
الاكتشاف الثاني أن العديد من السيناريوهات التي حملت اسمه مقتبسة عن أصول أدبية لكتاب آخرين، بعضهم معاصرين له مثل خوان رولفو، وبعضهم قديم جدا، مثل سوفوكليس!
الاكتشاف الثالث أن جارسيا ماركيز في بداية حياته المهنية كصحفي كتب عشرات المقالات النقدية لأفلام عصره وأنه حضر العديد من المهرجانات الدولية مثل فينيسيا وكتب تغطيات عنها، وأنه درس السينما وفكر في اتخاذها مهنة أساسية، وقضى بالفعل سنوات في محرابها ككاتب سيناريو محترف.
الاكتشاف الرابع أن الباحث في أدب جارسيا ماركيز، يمكنه أن يدرك تأثير السينما عليه، خاصة في أعماله الأولى قبل “مئة عام من العزلة”، وأن يرى كيف لعبت السينما دورا ملموسا في تطويره لاسلوبه المميز الفريد.
ان أدب وسينما جارسيا ماركيز تحمل دروسا قيمة عن العلاقة العميقة بين فنون الدراما والفنون عامة، وعن الفروق بين الوسائط الفنية، وعن الأساليب والتقنيات المختلفة، وهي دروس مفيدة لكل من يرغب في العمل بالأدب أو السينما أو الكتابة عنهما.
باقي الاكتشافات أتركها للفصول التالية، حتى لا يسحبني تقديم الكتاب كما سحبني متنه، في كم من المعلومات والروايات وكتب السيرة الشخصية والحوارات والمقالات والأبحاث العلمية، بالإضافة إلى الأفلام نفسها، التي كان العثور عليها أمرا في غاية الإجهاد والصعوبة، بالرغم من أن مشاهدتها كانت أمرا في غاية المتعة.
من المدهش أنني في كل مرة أوشكت فيها على الانتهاء من الكتاب، كنت أعثر على فيلم أو نص جديد يتعلق بالموضوع …وهو أمر يحدث حتى الآن، أثناء وضع اللمسات الأخيرة فيه.
لقد حانت اللحظة التي يجب أن أترك فيها القلم، أو لوحة المفاتيح إذا شئت الدقة، وأن أتوقف عن القراءة والمشاهدة والكتابة.
وقال مؤلف الكتاب: “للأسف، الشيء الوحيد السلبي بخصوص عملي في هذا الكتاب، هو أنني اضطررت للانتهاء منه.”