ثمة علاقة معقدة تربط بين الكاتب والقارئ وخاصة فى مجال الكتابة الصحفية، فإذا سألت الكاتب لماذا تكتب سيقول بأنه يكتب لأنه يريد أن يقول الحقيقة أو لمجرد أنه يستمتع بالكتابة، كما قد يجيب القارئ بأنه يقرأ بحثا عن الحقيقة أو لمجرد أنه يستمتع أو يهوى القراءة. وفى كل الأحوال فكلاهما يبحث عن الآخر كما أن أحدهما شرط أساسى لوجود الآخر. وتتخذ هذه العلاقة مستويات مختلفة من التواصل والتوتر وأحيانا الفتور حسب الموضوع أو المصلحة أو الموقف أو حتى مزاج القارئ. ولكن الأكيد أن هذه العلاقة تزداد تعقيدا وتوترا فى أوقات الأزمات عندما يكون المناخ السياسى ساخنا فينظر القارئ إلى الكاتب باعتباره صاحب موقف عليه أن يعلنه أو صاحب رؤية عليه أن يقولها. وفى هذه اللحظات بالذات يحتدم الصراع على ساحة الكتابة، وتصبح الكتابة تعبيرا عن مواقف وانحيازات أو أداة للتعبئة والفرز السياسى والثقافى. وفى هذه الساحة لا يكون القارئ مجرد متفرج أو مستهلك سلبى لما يكتب أو يقال، بل يبرز كطرف فاعل وربما سلطة لا يمكن للكاتب أن يتجاهلها وعليه أن يتخذ تدابير استثنائية للتعامل مع المزاج السياسى أو الثقافى السائد سواء من خلال الاقناع أو الحياد أو التلاعب بالقراء. فمن ناحية أولى يتمكن بعض الكتاب المحترفين، وليس بالضرورة الصادقين، من اقناع القارئ برؤيتهم حيث تمكن الاحترافية بعض الكتاب من التلاعب بذهنية القارئ ومشاعره وآلامه وتطلعاته وأوهامه. وهكذا يزداد بروز القارئ بوصفه موضوعا للاقناع أو التلاعب. ولكن من ناحية أخرى، فقد ساهمت عملية إصدار الصحف فى صورة الكترونية فى فتح مساحة للقراء من أجل التعليق على المقالات بعد نشرها، وبالتالى فقد أصبح للقارئ صوت يعبر من خلاله عن موقفه من الموضوع المثار بعد كتابته، ويمكنه أن يعلن اتفاقه أو اختلافه مع الكاتب بما يتضمنه ذلك من مدح أو ذم. كما أن تناقل المقالات الأخبار عبر وسائل الإعلام الاجتماعى قد تؤدى إلى ضياعها تحت تلال التعليقات التى تبدوا أحيانا أكثر بريقا من المقالات ذاتها.
وتخضع العلاقة بين الكاتب والقارئ لمجموعة من العوامل أهمها السلطة التى تؤطر هذه العلاقة وتمنح الكاتب أو القارئ قوة ما للتأثير فيما يكتب أو يقال. وأعنى بهذا السلطة بمعناها السياسى أوالدينى أو العلمى. فلا شك أن تحصن الكاتب بالسلطة السياسية يعطيه قوة قد تفوق قوة رفض القراء، ولا يهم إذا كانت السلطة السياسية التى يتحصن بها الكاتب مرفوضة من قبل غالبية القراء، فالسلطة المرفوضة هى الأكثر قدرة على استبعاد القارئ. ومن ناحية أخرى يمنح التحصن بالسلطة الدينية للكاتب نوعا من القوة قد يضاهى القوة السياسية ويتفوق عليها من منظور التواصل مع القراء، وخاصة إذا كان المزاج العام ينحو إلى التعامل مع كل ما يقال باسم الدين أو الأيديولوجيا باعتباره حقيقة غير قابلة للنقاش. ولهذا السبب غالبا ما يسعى الكاتب المتحصن بالسلطة السياسية إلى الاستعانة بالسلطة الدينية إذا لزم الأمر. وفى كل الأحوال فإن الكاتب يوهمنا بانه يقدم الحقيقة المطلقة، وهذا يتوافق مع قارئ متطلع إلى تلك الحقيقة المطلقة كما يريدها أن تكون.
إن ما أريد الوصول إليه يرتبط بوعينا بما يحدث حولنا وكيف نتعامل مع القضايا والتحديات التى تواجهنا سواء كنا كتاب أو قراء. إن العلاقة المفترضة بين الطرفين حيث يكون الكاتب مصدرا للحقيقة والقارئ شخص ما باحث عن الحقيقة هى علاقة مغلوطة، فلا الكاتب يشكل مصدرا للحقيقة بالضرورة ولا القارئ باحث عن حقيقة بالضرورة. وكلما أسرفنا فى قول الحقيقة أو طلبها كلما ابتعدنا عن التفكير الموضوعى فى الظواهر والأحداث التى تحيط بنا. ونحن فى أمس الحاجة لأن نفكر بطريقة مختلفة تبتعد عن الإطلاقية، حتى تتضمن ساحة الكتابة والقراءة حيزا للتفكير والمعرفة وبناء الرؤى بدلا من أن تكون مجرد ساحة للانحيازات والفرز والتعبئة السياسية والأيديولوجية. والمسئولية هنا مشتركة لأن الكاتب لن يكون كاتبا موضوعيا إلى بوجود قراء يحترمون التفكير العلمى والنقدى، وهؤلاء أنفسهم فى حاجة لكتاب يحترمون عقولهم. المهم أن نتحرر من تلك المعادلة الوهمية المرتكز على وجود حقيقة مطلقة.