بقدر ما توجعنا المآسي بقدر ما يحولنا تكرارها إلي آلات في مصانع القسوة.. فمنذ شهور كتبنا عن سيدة في نهاية العشرينيات من عمرها.. من جوف صعيد مصر.. تواجه الفقر والعقم ولا تري أملا في الحياة.. انحرفت أخلاقيا بعدما فقدت البوصلة ولم تعد تميز بين الصواب والخطأ.. حينها كتبت تحت عنوان رحيل الملائكة و كوابيس السقوط أنه حينما ترحل ملائكة الخير عن حياتنا تهتز الثوابت.. نجثو أمام المغريات.. تركع الكرامة.. تنهار المقاومة.. تنسد أبواب العون.. تنفتح أبواب الشر علي مصاريعها.. دروب معجونة بوخز الأشواك لكنها تبدو طرقا حريرية حينما يظلل هاماتنا اليأس.. ويستدعي المساحات المظلمة داخل كل منا لتصبح أكثر قتامة واسودادا..
هكذا يبدو المشهد إن رحلت ملائكة الخير التي تقدم العون للمحتاجين.. هكذا تكون النتائج إن غلت أيادي الحب عن المرضي والمعوزين والمكلومين والتعابي في كل حين.. فالسيدة الصغيرة تعاني العقم ولم تستطع المقاومة أمام متطلبات الحياة فانهارت وخارت قواها وسقطت مثلما يسقط أي شخص في هوة الخطيئة لكنها لم تسقط عن ضعف ولا عن شهوة.. سقطت من أجل العوز ومن أجل توفير إيجار المنزل.. وجدت نفسها مسئولة عن أسرة ومنزل وزوج مريض ولا تعرف حتي القراءة والكتابة فلم تجد ما تفعله إلا السقوط!
يعمل الزوج الشاب أرزقي.. رزق اليوم بيومه.. يحيون بأقل من 300 جنيه شهريا.. وأحيانا بدون أي دخل.. تساعدهم الكنيسة التي يتبعونها في منطقتهم أحيانا فهي أيضا كنيسة فقيرة.. أين الكنائس الغنية لا أعلم؟ تراكم الإيجار عليهما.. تركا القرية وتوجها إلي والدتها حيث المدينة.. وجاءت تطلب عونا.. تولي باب افتح قلبك الحالة.. ساعدناها قدر ما نستطيع.. وعرضنا الزوج علي طبيب متخصص ليجد أن العقم سببه من الزوج.. أجرينا جراحة عاجلة له لكن دون جدوي.. تبتغي طفلا ولا أمل سوي طفل أنابيب وحتي هذا الأمل ينعقد علي نسبة 30%..
رحلت السيدة وبين القرية والمدينة صارت تنتقل.. تأتي كل فترة تتلقي المساعدة وترحل.. إلي أن جاءت هذا الأسبوع.. وأثناء وجودها تلقيت اتصالا هاتفيا من امرأة عجوز.. تؤكد لنا أن السيدة الصغيرة ليست إلا نصابة..
أصابتني الدهشة وسألتها عن صفتها فأجابت: أن سيدة من القرية التي تقطن فيها وأعلم أنها تمتلك سيارة وزوجها مدمن مخدرات.. كما أنها تضرب والدتها وتهينها كل يوم.. ووالدتها امرأة عجوز وفقيرة ولا تقوي علي المقاومة.. والدتها لا ذنب لها فيما وصلت إليه ابنتها.. والدتها تستحق المساعدة. قاطعتها من أين لك برقم هاتفي؟ فأجابت من أولاد الحلال.
أدركت حينها أن النفوس كثيرا ما تضن بالخير وتلفظ الانتقام.. استمر الحديث حوالي ربع ساعة أدركت خلالها أن من تحدثني هي والدة السيدة الشابة.. لم أفصح لها عن استنتاجي.. بل كتمته في داخلي ورفعت عيني إلي السماء أستنجد بالصبر والحكمة.. خاصة أن الباب له باحثين اجتماعيين يتولون بحث الحالة جيدا.. فضلا عن أن الجراحة التي أجراها زوجها كنت أنا أحد الحضور علي رأس الطبيب وعاصرت التفاصيل لحظة بلحظة فلو كان مدمنا لاكتشف الطبيب.. كما أجرينا اتصالا هاتفيا بالكنيسة التي تتبعها السيدة الشابة وبالقس المسئول عن الأسرة والمتابع لها منذ سنوات والذي أكد أن الحالة تعاني من العوز وتستحق المساعدة..
استأذنت السيدة وتركتها لألملم ما تبقي من أعصابي بعد المحادثة.. ثم عدت إليها وقلت لها آسفة لن أستطيع مساعدتكم مرة أخري إلا بعد إعادة بحث الحالة.. بعد ما علمته من معلومات جديدة.. وواجهتها بالمعلومات.. لم تخف شيئا عني وقالت: تفتكري إن واحدة زيي حكت لك عن سقوطها في الخطية هاتضحك عليكم علشان تساعدوها بـ200 جنيه كل شهر؟ لو كنت ست مش مظبوطة كنت كملت في طريق الشر وكسبت منه كتير خاصة إن في واحدة في القاهرة كانت تعرفني علي رجال من جنسيات عربية غير مصرية.. تفتكري لو الموضوع نصب هاتكفيني 200 جنيه أو هاطلب منكم تتوسطوا وتعملوا لي جراحة علشان أخلف حتة عيل يملأ الدنيا علي ويحسسني أن الحياة لها معني.
نكست رأسي فالحكمة في حديثها صائبة .. أجبتها: لن نتخلي عنك ولكن دعينا نبحث الحالة مرة أخري.
أجابت السيدة أكيد اللي اتصلت بيكم أمي لأننا متخانقين هي عايزة تنتقم مني علشان ماجيش تاني القاهرة وأعيش معاها.. علشان ماتشيلش عني شوية.. الدنيا كلها اتسدت في وشي حتي أمي بتنتقم مني.. كل واحد بيدور علي حاله.. وأنا تايهة.. لكن مش عايزة أضيع أرجوكم مش عايزة أضيع.. ماليش حد تاني غيركم يساعدني أنا هنا وباقولك اعملي بحث الحالة لكن ماتتخليش عني.
بكت ومضيت نحو الباب وأنا في حيرة من أمري هل أسأت التقدير أم أنني أحاول التيقن بعد ما تلقيته من معلومات حديثة.. أم أن الشك تسلل إلي قلبي وتمكن منه بسبب كثرة ما رأيته من انتهازيين لا يكشفهم إلا بحث الحالة العميق.. استمعت إلي آهاتها لكنني تركتها تذهب.. وما أن وصلت إلي الباب حتي وجدتني أهرول نحوها.. أدعوها.. أستغيث بما تبقي لدي من ثقة لتعلي الإنسانية بدلا من الروتينية واللائحة التي قضت علي كل ما فينا من مشاعر طيبة.. دعوتها وأبلغتها أن المساعدة لن تنقطع حتي يتم بحث الحالة النهائي.
عجيبة الحياة تجبرنا أحيانا علي الإتيان بأفعال لم نكن نتوقع أن تصدر عنا لمجرد أننا وضعنا في محل المسئولية فنجد أنفسنا تخلينا عن الإنسانية وصرنا نتعامل كآلات لا تشعر ولا تلين ولا تقدر ما يجول بالنفوس من حقد وانتقام تنسينا العوز والانكسار. فتختلط المهام ونصير مجرد ترس في آلة الانتقام التي يديرها البعض تجاه أقرب الناس إليه.
إيد الحب
امتدت أيادي الحب بالمبالغ التالية:
1500 جنيه م.ف.ي أسيوط
450 جنيها من يدك وأعطيناك أسيوط
8616 جنيها القديسة العذراء مريم بأستراليا
500 جنيه مارينا ومريم أمين رفعت
600 جنيه من يدك وأعطيناك
400 جنيه طالب شفاعة العذراء بقنا
600 جنيه علي روح المرحوم سمير رمزي
450 جنيها طالبة شفاعة العذراء والبابا كيرلس
600 جنيه طالبة شفاعة أبونا فلتاؤس السريانيشفيع المستحيلات
3000 جنيه مديونة للرب