علمتنا التجارب أكثر مما علمتنا المدارس والكتب.. علمتنا أن الطاقة الإيجابية هي طاقة البناء وبث الطاقة السلبية هو طريق الهدم.. علمتنا أن الوطن ليس أمتارا من الأرض ولا ترابا ولا احجارا ومؤسسات وحسب.. الوطن بشر متضامنون من أجل البناء.. الوطن ليس أنظمة زائلة ولا موظفين فاسدين.. ولا معارضة هشة لا تقدم إلا النقد اللاذع بلا بدائل وحلول للمقهورين والمحرومين والمرضي والفقراء.. وإنما صفوف كثر من جنود مجهولين يجتهدون من أجل البسطاء والمعوزين.. علمتنا أنه ما ضاع حق وراؤه مطالب ولا متاهة للعدل طالما نحن خلفه لا هثون.. فإن كانت التجارب هكذا علمتنا فعلي كيرلس التحلي بمزيد من الصبر.
كيرلس طفل لا يتعدي العاشرة من عمره.. تراه فتتجسد أمامك كل مشاعر الظلم والاحتياج.. ولد مريضا.. لأبوين فقيرين لم ينالا حظهما من التعليم.. والده يعمل حارس عقار بإحدي المناطق الشعبية دخله 800 جنيه.. والدته لا تعمل وله شقيق واحد أصغر منه.. جاءني والد كيرلس حاملا أياه علي كتفه.. الولد لا يتمكن من الحركة إلا بالكاد.. جسمه لا يتعدي جسد طفل في الرابعة من عمره.. بينما يقفز الذكاء من عينيه.. مصاب بما يشبه الضمور في العمود الفقري فتوقف نموه عند هذا الحد.. لم يلحقه والده بالدراسة خشية أن يتعرض للسقوط أو أية مخاطر قد تنتج عن عجزه الحركي.. وظل الحال هكذا.. إلي أن أتي إلينا شاكيا من ضيق الحال.. كيرلس يحتاج لعلاج دائم.. ولطبيب أمين للعرض عليه.. قمنا باللازم لكن يبدو أن الطفل حالته متأخرة.. لذلك خضنا معه معركة التحاقة بالدراسة.
أصطحبنا كيرلس وطفنا علي الجهات المعنية فبعض المدارس بها ما يطلق عليه فصول التعليم المجتمعي’ والتي تختص بتعليم الأطفال الذين حالت ظروفهم دون الإلتحاق بالمدرسة في سن مناسب.. طلبت المدرسة تقريرا طبيا عن حالته العقلية والصحية ومقياس ذكاء مختومين بخاتم النسر.. فشرط القبول إلا يقل مقياس الذكاء عن 51%.
وذهبنا به إلي معهد السمع والكلام بإمبابة.. في طابور الانتظار كانت المعاناة التي لا توصف.. وعند الوصول إلي المختصة قالت: أذهبوا إلي المرك.. واستخرجوا المقياس وعودوا إلي تعجبنا ونظرنا إلي بعضنا البعض.. الأنف الصحفي بدأ في العمل سريعا.. وبمعلومات بسيطة علمنا أنها رئيسة لمركز طبي يعمل في نفس المجال ومعتادة علي تحويل الحالات إلي مركزها مقابل مائة وخمسين جنيها ثم تعود الحالة ليتم تفريغ النتائج ووضع خاتم النسر عليها في المعهد.. ولكن من لا يملك هذا المبلغ ماذا يفعل؟.. فضلنا أن نستمر في المعهد ولا ننصاع لاقتراح الطبيبة.. وبالفعل أجري له مقياس الذكاء وكانت النتيجة مذهلة فالطفل مستوي ذكائه 85%.
فرح والد الطفل وفرحنا معه.. حملنا التقرير ومن المعهد إلي الإدارة التعليمية كان الطريق الموثوق من نهايته الموفقة.. لكن في بلدي كل الأشياء ممكنة.. يعمل الناس ضد أنفسهم وضد مستقبل ابنائنا.. وضد كل المسلمات.. في وطني يطل الروتين من احشاء التعنت واللامبالاة والامعان في إذلال الناس.. إذ اقرت الإدارة التعليمية أنها لن تعتمد التقرير لأنه لم يصدر عن هيئة التأمين الصحي..
الذهول أصابنا.. كيف لنا أن نأتي بتقرير مختوم بخاتم النسر من هيئة التأمين الصحي المختصة بتوقيع الكشف علي من هم مدرجة اسمائهم بكشوف الطلاب والطفل لم يلتحق بعد بالدراسة.. كذبنا المنطق في عقولنا وكتمنا الغيظ في نفوسنا وذهبنا لتأمين الصحي فما كان من المسئولين إلا أن اجابونا بنفس الجواب.. الطفل غير مقيد بكشوف الطلاب.
عدنا للإدارة فقررت أنها لن تقبل الطفل.. جدال دار: يا سيدي الطفل غير مقيد فكيف للتأمين الصحي أن يصدر تقريرا بشأنه.. نحن هنا لإدراجه كطالب.. يا سيدي هذا التقرير المرفق مع أوراقه مختوم بخاتم النسر من معهد السمع والكلام المنوط به أصدر مثل تلك التقارير حول مقياس الذكاء.. يا سيدي لماذا تتعنت.. يا سيدي الروتين لا يمكن أن يكون فوق مصلحة المواطن
لم تفلح المناقشة المنطقية.. ولا الحجج العقلية.. وتاه الولد بين الإدارة التعليمية والتأمين الصحي.. وضاع حقه في التعليم إلي أن يصل صوته لوزير التعليم أن قرأ أو سمع أو قرر أن يتخلي موظفوه عن مطرقة الروتين وسندان السلبية.. وعاد كيرلس ووالده يبحثان فقط عن الدواء والغذاء.
تري كم كيرلس في وطننا؟.. وكم منهم استسلم للواقع المرير وكم لبس العند وشاحا واستمر ليصل إلي هدفه.. وكم معاق حركيا وكان جبارا في العلم حينما اتيحت الفرصة له؟.. فكم نهدر من طاقات بتعنتنا.. ألا يوجد أمل في تغيير أولئك الذين يمارسون تجميد الأحلام؟.. معظم الناس يعلمون أنهم يجب أن يتغيروا ولكن نادرا ما يستطيع أحدهم تجاوز مرحلة العلم إلي مرحلة الممارسة الجادة لتطوير الذات وتغيير السلوك خصوصا أن كان مرتبطا بمصائر الآخرين.. ألم يحن الوقت لنتجاوز نقائصنا خصوصا مع الغلابة؟!
إيد الحب
امتدت أيادي الحب بالمبالغ التالية:
500 جنيه فاعل خير
1000 جنيه من يدك وأعطيناك
200 جنيه طالبة شفاعة العذراء والقديسين
200 جنيه من العريش
2969 جنيها من يدك وأعطيناك