على الرغم من أننا نعيش بالفعل عصر ثورة الإتصالات والمعلومات، إلا أننا لازلنا نعانى من شُح المعلومات، وأصبحنا نعانى، ربما بصورة غير مسبوقة، من تشوش وإرتباك معلوماتى. ففى الأغلب الأعم نكتشف أننا نفتقر إلى المعلومات حول كثير من الوقائع، أو لدينا معلومات كثيرة لكن أغلبها مشوش وغير موثوق فيه. وأستطيع أن أقول أن خير مثال على ذلك هو تلك الحرب الكبرى على الإرهاب، والتى هى فى النهاية تجمع فى الوقت ذاته بين كونها حربا كثيفة المعلومات تتضمن وقائع بلا معلومات. فمنذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر، وحتى الحرب الجارية الآن ضد “تنظيم الدولة الإسلامية- داعش”، أشك أننا نعرف ما هى الحقيقة رغم الدفق المعلوماتى اليومى على مدار سنوات طويلة من قبل الإعلام والمحللين والخبراء والسياسيين وغيرهم. والأمر لا يتعلق فقط بالحرب على الإرهاب، فثمة الكثير من القضايا المصابة بداء عدم “اليقين” فى المجالات السياسية والاجتماعية والصحية والاقتصادية، فكما لا نعرف كيف ولماذا داعش؟ فإننا لم نعرف من هو “الطرف الثالث” الذى كان الطرف الأكثر نشاطا فى ظل “الربيع العربى”؟ ولم نعرف إذا ما كانت أنفلونزا الخنازير ستقتلنا أم لا؟ وانتهاء بعلاجات “الإلتهاب الكبدى الوبائى” هل هى علاجات حقيقية أم لا؟ لقد زادت المعلومات وزاد معها عدم اليقين، هذا كل ما نعرفه.
وإذا كانت المشكلة التقليدية فيما يخص المعلومات هى الحجب أو عدم الحصول عليها، فإن المفارقة الراهنة تتمثل فى ذلك الإرتباط بين الكثرة والندرة. إن التشوش وعدم اليقين يرتبط الآن بكثافة تدفق معلومات تأتى من كل صوب وحدب، ولكن هذا يرتبط بندرة المعلومات الفعلية، فقد أصبح الإغراق المعلوماتى مشكلة حقيقية من منظور جودة المعلومات ومدى مصداقيتها، حيث أصبح لدينا قدر كبير من المعلومات بخصوص كل واقعة أو حادثة، وهى معلومات سهلة يمكن لنا أن نستهلكها ونتداولها ونتحيز لها، ولكنها مثل الوجبات السريعة التى تفتقر إلى الجودة وتسبب أضرارا صحية. أما المفارقة الثانية، فتتمثل فى ثنائية المشاركة والاغتراب، فلاشك أن ثمة زيادة غير مسبوقة فى مشاركة الناس فى تداول المعلومات واستهلاكها وإعادة إنتاجها، فالناس باتوا أكثر عرضة للدفق المعلوماتى على الأقل من خلال وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعى، وأثناء التداول فإن المشاركة المتزايدة والهائلة تعنى تحريرا جماعيا وعشوائيا لما يجرى تداوله، وهذا تختلط القصص بالتحيزات والأكاذيب فتزيد الهوة بين ما حدث وما يقال، وتتضخم حزم المعلومات لدرجة أننا نغرق فى دفق معلوماتى بلا معنى فلا نرى الوقائع أو الأحداث الأصلية. وهكذا يختفى الحدث وراء ما يقال عنه. وأخيرا ثنائبة الذاكرة والنسيان، فمع الدفق المعلومات، فإن الوقائع تدافع وتتزاحم، ومعها ندخل فى موجات قصيرة من الذاكرة والنسيان، فالمعلومات لا تتواصل بل تأتى كدفقات سريعة وكثيقة ثم تختفى لتعاود الظهور إذا لزم الأمر فى سياقات مختلفة. فنحن بلا ذاكرة، رغم تزايد قدرتنا على حفظ واستدعاء المعلومات من خلال الأدوات التكنولوجية.
وطالما أننا مصابون بداء “عدم اليقين”، وطالما أننا فى حالة إغتراب عن الأحداث والوقائع، وبما أننا نحمل ذاكرة مشوشة، لا أعتقد أننا فى وضعية معلوماتية أفضل من الأجيال السابقة أو حتى أسلافنا. ومع ذلك فإن لدينا ما يكفى من الأوهام لكى لا نكف عن الكلام.