وقد ولد مرقس سميكة ببيت جدة لأمه في 28 فبراير1864م بحي الأزبكية لإحدى الأسر القبطية العريقة الثرية التي تمتد جذورها إلى القرن السابع الميلادي.
كان والده رجلا تقياً منحدراً من أصول متدينة وأجداده يقدمون الخدمات للكنيسة ويزودونها بالمال اللازم لعمل الميرون المقدس. وأهدى أحد أجداده الكنيسة المعلقة بعض المخطوطات القبطية والعربية.
وكان لـ”وطني” لقاء مع الدكتور سمير سميكة – طبيب النساء الشهير وحفيد مرقس باشا سميكة ليلقى لنا الضوء على قصة كفاح وجهاد جده مرقس باشا في إقامة المتحف القبطي.. فقال: في عام 1908وبعد أن تعلم مرقس سميكة اللغة الانجليزية وأجادها تماما عمل لفترة في مصلحة السكك الحديدية، ولكنه ترك هذه الوظيفة للتفرغ لفكرة إنشاء المتحف القبطي الذي أولاه كل اهتمامه وعنايته، حتى عين في منصب رئيس اللجنة المسئولة عن حفظ الآثار اليهودية والمسيحية والإسلامية. وكان شغوفا منذ شبابه بالآثار القديمة وخصوصا الآثار القبطية.. وحاول بناء متحف قبطي صغير يضم الأيقونات والمخطوطات وقطع الأقمشة والأخشاب القديمة من العصور القبطية الماضية..
وبعدما جمع الكثير من المقتنيات تقدم إلى البابا كيرلس الخامس – في ذلك الوقت – للحصول على مباركته وموافقته على نقل ما جمع من مقتنيات قيمة إلى غرفة بجوار الكنيسة المعلقة، لتكون بداية لإنشاء متحف للآثار القبطية، ولكن البابا كيرلس رفض الفكرة بالرغم من المساعي المتكررة للحصول على الموافقة، فقد كان لدى الكنيسة القبطية قاعدة أساسية تعترض على استخدام الأشياء والأدوات المستعملة في دور العبادة أو تداولها بأي شكل حيث كان معظمها مدشن للاستعمال داخل الكنيسة فقط. ولذلك كان الكهنة يقومون بإحراقها إذا أصبحت غير صالحة للاستعمال، وهذا ما جعل عملية جمع أثار دينية ذات قيمة تاريخية أمرا صعبا، للغاية بل كان مستحيلا ولذلك تكدست غرف الخزين بالأديرة والكنائس بكثير من الأعمال الخشبية القديمة من أبواب ودكك وبراويز وأيقونات قديمة ومخطوطات خزنت للاستعمال كوقود لإعداد القربان والمخبوزات وأيضا للتدفئة في ليالي الشتاء القارص..
أما الأواني الفضية والبرونزية مثل صناديق حفظ الأناجيل والأوعية من كل الأشكال فقد كانت تجمع في أكوام وأجولة وتباع للصاغة لكي ما تصهر مرة أخرى وتصنع منها أدوات جديدة تدفع الكنائس فيها قيمة مصنعية فقط.
ويضيف الدكتور سمير: في يوم من الأيام، وأثناء وزن الأواني غير المستخدمة والتي قرر لها أن تباع للصاغة وبحسب الوزن قدرت وقتها بمبلغ 180جنيهاً، وفي الحال اقترح سميكة على البابا كيرلس تدبير المبلغ المطلوب للأوعية الجديدة والسماح له ببدء المتحف المقترح بهذه المجموعة من المقتنيات الفضية القديمة، ولطمأنة البابا وتهدئة مخاوفه عرض سميكة أن يبدأ متحفه في غرفة مجاورة للكنيسة المعلقة تحت عناية كاهن الكنيسة وأن تستمر ملكية المعروضات للكنيسة، وفي نفس الوقت يكون في مقدرة البابا شراء الأواني الجديدة اللازمة للكنيسة والخدمة بها.. ونال هذا الاقتراح إعجاب ومباركة البابا.. وحصل سميكة أخيراً على موافقة البابا ليبدأ متحفه.. وخلال أسبوعين جمع سميكة 300 جنيه من عائلته وأصدقائه..
وفي يناير1908م بعد عيد الميلاد فتحت قائمة الاكتتاب للمتحف وتصدرها الأمير حسين كامل الذي أصبح فيما بعد السلطان حسين كامل وكان يشغل وقتها رئيس المجلس التشريعي، ومن أعضاء المجلس التشريعي شعراوي باشا وعفيفي باشا وأيضا السير الدون جورست – المندوب السامي البريطاني ومجموعة كبيرة من المستشارين البريطانيون للحكومة المصرية، وكذلك اكتتب مجموعة كبيرة من المسئولين الحكوميين مثل نوبار باشا وآرتين باشا وكثير من وجهاء المجتمع والصفوة وكثير من الأساقفة ورجال الكهنوت منهم أسقف الإسكندرية وأسقف دير المحرق.
وافتتح المتحف القبطي رسميا عام 1910م وكان سميكة يهدف إلى أن يكون المتحف مؤسسة وطنية أهلية ولكن الملك فؤاد أراد وقتها أن يكون المتحف مؤسسة حكومية رسمية، فرفع سميكة الأمر للبابا لأخذ موافقته فغضب الملك جدا من سميكة ورفض مقابلته فيما بعد، كما اخذ البابا ورجال الكنيسة موقفا من سميكة معتقدين أنه يريد تسليم المتحف للحكومة بعكس ما كان يقصد سميكة.. فإلحاق المتحف بالحكومة يجعله قادرا على الحصول على المال اللازم لنزع ملكية العديد من البنايات المجاورة التي تشغل المكان حول المتحف وكنيسة أبي سرجة وكنيسة القديسة بربارة، كذلك إنشاء وتشيد جناح كبير يضم العديد من الأسقف القديمة والمزينة بالفسيفساء وقطع الموزايكو.
ومن المكاسب التي عادت على المتحف القبطي بعد تبعيته للحكومة، نقل الآثار القبطية الموجودة بالمتحف المصري إلى المتحف القبطي، حيث كانت بالمتحف المصري قاعة كبيرة تجمع العديد من قطع الآثار القبطية، يرجع الفضل في جمعها للعالم الفرنسي ماسبيرو، والذي خصص لها قاعة بالمتحف المصري.
وقد مُنح سميكة خلال حياته درجة البكوية والباشاوية تقديرًا لجهوده، كما كان عضوًا فخريًا في مجمع الأثريين، واُنتخب عضوًا في المجمع الجغرافي الملكي بـإنجلترا عام 1971، وذاع صيته وعرفت انجازاته ووصلت إلى المحافل الدولية والعلمية، فحاضر عن علم الآثار في جامعة كامبردج عام1924م وأيضا في برلين وستوكهولم، وكان له دور كبير في الحصول على العديد من المخطوطات من المكتبة البابوية والكنائس والأديرة الأثرية، واصدر أول دليل للمتحف القبطي والكنائس في مجلدين باللغة العربية والإنجليزية والفرنسية. وفارق الحياة عام 1944 تاركًا خلفه ذكرى عطرة تتناقلها الأجيال.
وقد اصدر الدكتور سمير سميكة طبيب النساء الشهير كتابا متفردا جامعا يتوج به تاريخ جده وانجازاته ومشواره العظيم، ويلقي فيه الضوء على الكثير من الأحداث والصعوبات التي قابلته في إنشاء المتحف القبطي.
وأيضا كان لـ”وطني” لقاء مع الدكتورة ميرفت الصيرفي مديرة المتحف القبطي والتي تكلمت عن المتحف حيث قالت: يعد هذا المتحف أكبر متحف في العالم لآثار مصر من المرحلة القبطية ويتكون المتحف من جناحين، الجناح القديم الذي أنشئ عام 1910، والجناح الجديد الذي افتتح عام 1947.
وفي عام 1966 تم إغلاق الجناح القديم لترميمه ثم أعيد افتتاحه فى عام 1984 ، ولكن تم إغلاق المتحف مرة أخرى بعد زلزال أكتوبر 1992، وتمت إعادة ترميمه وتطويره وإضافة بعض المشربيات، والأسقف، والنافورات، والفسيفساء، والأعمدة الرخامية التي جلبت من قصور قديمة كان يملكها بعض المسيحيين الأثرياء. وقد تم ربط الجناح القديم بالجناح الجديد بواسطة ممر ليعاد افتتاحه في يونية 2006 ، مع مراعاة تقسيمه إلى 26 قاعة وتجديد سيناريو العرض، حيث رتبت مقتنيات المتحف تبعا لنوعياتها إلى اثني عشر قسماً، وعرضت عرضا علميا روعي فيه الترتيب الزمني قدر الإمكان، منها قسم الأحجار، والرسوم الجصية، وبعض الصور الملونة للسيد المسيح، والسيدة العذراء، والملائكة، والحواريين، والقديسين؛ بالإضافة إلى مجموعة من تيجان الأعمدة، والعناصر المعمارية، والمنحوتات، والعناصر الزخرفية. وأيضا قسم تطور الكتابة القبطية والمخطوطات الذى يتضمن العديد من المخطوطات من ورق البردي وغيره، وتسجل موضوعات دينية كتبت باليونانية والقبطية والعربية وكذلك قسم الأقمشة والمنسوجات و قسم العاج والإيقونات و قسم الأخشاب و قسم المعادن و قسم الفخار والزجاج.
شاهد قبر من الحجر الجيري يظهر التداخل بين علامتي الصليب والعنخ وهو من نهاية القرن الرابع الميلادي. وقطعة نسيج عليها بعض الرموز المسيحية من القرن السادس الميلادي، وأيضا نقش على مشط من العاج يظهر بعض معجزات السيد المسيح من القرن السابع الميلادي، وتاج عمود من الحجر الجيري مزين بشكل عناقيد العنب من القرن السابع الميلادي وأيضا مسرجة من البرونز لها مقبض علي شكل الهلال والصليب من القرن الثالث عشر الميلادي.
والجناح القديم للمتحف يضم مجموعة من قطع الأثاث الخشبية والأبواب المطعمة.. منها ثلاثة قطع من الأخشاب النادرة التي تعد نموذج فى دراسة فن النحت تم صنعهم ما بين القرنين الرابع والسادس الميلاديين وهم باب مذبح كنيسة القديسة بربارة وعتبة عليا كانت في وقت من الأيام تزين احد أبواب الكنيسة المعلقة ومذبح كنيسة القديسين سرجيوس وواخس.
ويضم المتحف القبطي مخطوطات للكتاب المقدس تعود لآلاف السنين كذلك يضم قسم المنسوجات عينات كثيرة من النسيج القبطي المتميز، والذي يعبر عن قدرة الفنان في مجال الغزل والنسيج، وفي تكوين العديد من المناظر والكتابات والعناصر الزخرفية.
ومن أهم مجموعات المتحف القبطي مجموعة الأيقونات – وهي اللوحات الخشبية التي تتضمن صوراً تمثل موضوعات مختلفة أو قديسين، تعلق على جدران الأديرة والكنائس. ثم هناك أقسام المعادن والعاج والعظام، وأجزاء من بعض الكنائس التي عثر عليها في منطقة النوبة.
ويوجد فى القاعة الرابعة للمتحف الصليب داخل علامة (عنخ) المعروفة لدينا بمفتاح الحياة وهناك قطع من البرونز ويظهر عليها الهلال وغصن الزيتون والصليب داخل علامة (عنخ) وهو يوحي بقوة الوحدة الوطنية في العصور القديمة.
وتضم القاعة السادسة للمتحف العديد من اللوحات الجدارية أو (الشرقيات) التي كانت ملتصقة بالحوائط وجدران المتحف قبل ترميمها، وفي قاعة بويط (قرية قرب أسيوط) توجد شرقيات فى الحوائط تم ترميمها بوسائل علمية بالإضافة لعدد 2 لوحة – واحدة للسيدة العذراء والأخرى للسيد المسيح، وهناك قسم خاص للمنسوجات القبطية الأثرية الشهيرة بالعالم لدرجة تسميتها بالقباطى نسبة إلى أقباط مصر.
وأما الدور الثاني بالمتحف، الدكتورة ميرفت الصيرفي تقول: في الدور الثاني توجد مجموعة من حجر البرونز الذي يظهر عليه رمز الصقر وهو ما كان يمت بصلة للدولة الرومانية وتوجد عملات ذهبية اكتشفت منذ خمسة وعشرين عاما في زلعة بدير الأنبا شنودة بسوهاج، وأما القاعة الحادية عشرة فيوجد بها حفائر تحكي قصصا في الإنجيل من العهد الجديد وحفائر أخري تحكي قصصا دينية من العهد القديم، كما توجد لوحة تعبر عن قصة حواء وآدم وخروجهما من الجنة.
وتضم قاعات الدور الثاني أيضا أخشابا ومعادن مهمة وصورا نسيجية لهرقل يصارع الأسود .
ويوجد في القاعة الخامسة عشرة برديات مهمة وهي برديات نجع حمادي أو برديات العارفين بالله وهي1600 بردية من نجع حمادي فقط.
وبعد هذا العرض للمتحف وأقسامه المختلفة خرجنا خارج المتحف حيث وجدنا العديد من النفورات ذات الأشكال الهندسية الرائعة ومجموعة كبيرة من الأحجار الأثرية من تيجان وأعمدة ومقاعد وزلع وتوابيت وبعض التماثيل والمجسمات.. كذلك العديد من المشربيات الجميلة التي تغطي معظم حوائط المتحف من الخارج بين الجناح القديم والجديد.. وأيضا يوجد بئر قديم اكتشف حديثا أثناء أعمال الترميم بالمتحف وأمام المدخل الرئيسي للمتحف.. نجد أسدين من الحجر رابضين أمام الباب وكأنهم يحرصون المتحف.. وعلى بعد خطوات نجد تمثال نصفي على قاعدة رخامية لمؤسس المتحف سميكة باشا.. والمتحف عموما يقع في بانوراما رائعة حيث يحيط به أشجار النخيل العالية وأمامه حصن بابليون الأثري