ولكم أن تعرفوا أنه فى أثناء الاضطهاد كان الشخص الذي يعلن مسيحيته يعتبر خائناً للدولة الوثنية، وكان المخرج الوحيد له هو أن يبخر للأوثان ولو مرة واحدة، ليأخذ مقابل ذلك صكاً أنه قد بخر للأوثان وأنه موالٍ للدولة ودينها وإلا فينتظره الطرد من وظيفته وإهدار حقوقه المدنية، ثم العذابات القاسية وأخيراً حكم الإعدام تماماً كما يعامل أي خائن للوطن. لذلك كان إذا أراد شخص أن يغتصب أموال إنسان مسيحي، فما أسهل أن يبلغ السلطات أنه مسيحي، وعندئذ كان على المسيحي إما أن يقبل سلب أمواله و إهدار حقوقه مثل هؤلاء الذين قال عنهم بولس الرسول:”أنتم الذين قبلتم سلب أموالكم بفرح عالمين في أنفسكم أن لكم مالاً أفضل في السموات وباقياً”(عب34:10)، أو أن يبخر للأوثان فيعطي هذا الصك الذي يحفظ له آدميته وحقوقه كمواطن في الدولة.
فكيف استطاع الشهيد أبادير هذا القائد في الحرس الملكي ساكن القصور، وكيف تمكنت إيريني هذه الفتاة الغضة الرقيقة التي يخدمها الجواري والعبيد أن يقبلا ليس فقط سلب أموالهما؛ بل أن يقبلا سلب حياتهما بفرح؟!
أولاً: الزهد في العالم ومقتنياته: حياة الزهد التي عاشها الشهداء والقديسون لم تكن كراهية للعالم, لكن إيماناً بأن العالم وما فيه لا يساوي شيئاً “العالم يمضي وشهوته وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد”(1يو17:2).
لقد كان التقشف هو المقدمة والإعداد لقبول سفك الدم وبذل الحياة برمتها, فقبل أن يقبل أبادير صلب الجسد في آلات التعذيب؛ صلب نفسه عن كل هوى أرضي وكل متعة زائلة, زهد العالم وأعطاه ظهره فكما قال القديس أغسطينوس:”جلست على قمة العالم حينما أصبحت لا أخاف شيئاً ولا أشتهي شيئاً”.. زهد أبادير في راحة الجسد ورفاهيته وتدليله، عندما كان يخلع ملابسه الغالية ويلبس ملابس العامة حتى لايعرفه أحد، ويذهب ليسقي الغرباء لأجل اسم المسيح. وحدث في أحد الأيام أن تعب جداً فجاءه صوت من السماء:”يا أبادير أيها الرجل الذي يستحق المحبة، لا تيأس أنا معك وإني أعد خطواتك؛ إذ أنت تأخذ الماء لتسقينى أنا”.
لقد تخلى أبادير وإيرينى عن كل الإمكانيات والحياة المرفهة، لأنهما كانا واثقين أن الحياة على الأرض قصيرة مهما طالت، كما يشبهها يعقوب الرسول أنها مثل البخار الذي ما أن يظهر حتى يختفي سريعاً “ما هي حياتكم؟ إنها بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل”(يع14:4)، وهذا ما قاله الشهيد أبادير لصديقه سقراط:”هيا نعطي قلبنا لله لمدة قصيرة (أي حياتنا الأرضية) حتى ننال المكافأة فى السموات الحياة التى لا تنتهى. فلما خذله صديقه، وأخبر أم الشهيد أبادير برغبته في الاستشهاد وعاتبه القديس وقال سقراط:”كنت أريد ألا تموت يا أخي وأن نبقى معاً صديقين دائماً”. فقال له أبادير:”لو كنت تدرك مقدار مجد الشهداء لما كنت تقول أن تركهم العالم موت, بل قلت أنه حياة أبدية”.
لقد أدركا أن الحياة على الأرض مؤقتة لأنها أيام غربة في انتظار الرجوع إلى السماء – الوطن الذي خرجنا منه بالخطية وسنعود إليه بغفران الله لنا في دم المسيح – لذلك يقول الرسول “سيروا زمان غربتكم بخوف”(1بط17:1)، وقد أرسل الرب القديس وأخته إلى القديس أبا كراجون في بابليون (مصر القديمة) لكي يعزيهما ويشجعهما، فكان من بين ما قاله له:”لا تفكر في أموالك ووظيفتك الكبيرة التي تركتها، فإن مملكة هذا العالم لا تبقى إلا لزمان محدود، أما مملكة السموات فأبدية”. كما يقول بولس الرسول عن أبطال الإيمان “يبتغون وطناً أفضل أي سماوياً. لذلك لا يستحي بهم الله أن يدعى إلههم لأنه أعد لهم مدينة (أورشليم السماوية)”(عب16:11).. وهكذا استهان الشهيدان بسلب حياتهما بفرح لأنهما “حسبوها صح”.
وثانياً: ساندهما في ذلك صلواتهما الحارة و المستمرة مع الأصوام: سر قوة الشهيد أبادير والشهيدة إيريني كانت الصلوات والتمسك بمصدر القوة والمعونة الرب يسوع.. لما تمسكت به أمه و بكت بين يديه لتمنعه من الاعتراف بالمسيح أمام دقلديانوس، ضعف أمام دموعها فلجأ إلى مصدر القوة فصلى كثيراً وصام طويلاً مع مطانيات لا حصر لها، لدرجة أن جسده ضعف من كثرة التقشف، كما كانت إيريني تصلي باستمرار: يا ربى يسوع المسيح اذكرني في محبتك ولا تتركني. حتى أرشده الله في حلم أن يذهبا إلى الإسكندرية وينالا الاستشهاد في مصر.
وعندما وقفا أمام الوالي واعترفا باسم الرب يسوع، أمر أن يضعوا أبادير على آلات التعذيب، أما القديسة إيريني؛ فتجرأ أحد الجنود وحاول إيذاء عفتها وطلب من الوالي أن يأخذها إلى بيت دعارة، ولأنه كان يتكلم بالمصرية لم تفهم القديسة كلامه، وعندما وصلت إلى هناك صرخت بالصلاة:”يا ربي يسوع أعني وقت الضيق” وفي الحال ضرب الله الجندي بالعمى، واستطاعت القديسة الهرب وذهبت إلى أخيها في السجن، وهناك كان القديس يصلي مع كل المسيحيين المسجونين ويبارك الله ويطلب منه المعونة تماماً مثل بولس وسيلا في سجن فيلبي:”كان بولس وسيلا يصليان ويسبحان الله والمسجونون يسمعونهما”(أع25:16).
وفي أثناء العذابات تألمت القديسة إيريني هذه الفتاة الرقيقة المرفهة كثيراً فشجعها أخوها قائلاً:”تشجعي يا أختي, صلي إلى الرب وهو يعينك”. وكان يصلي لأجل أخته بلجاجة فنزل ملاك الرب إليها وأخذها إلى أورشليم السمائية، وأراها إكليلها وعرشها وعرش أخيها المعد لهما، وقواها الرب لتحتمل الآلام، حتى أن الجنود كفوا عن تعذيبها وقالوا للوالي:”نحن مثل من يعذب قطعة خشب لا تشعر ولاتحس بشيء”.
واستشهد كلاهما في يوم 28 توت لينالا الأكاليل الأفضل، والأبقى إلى الأبد, بركة صلواتهما فلتكن معنا… آمين.