تتعدد سبل تقديم التاريخ، ومن أبرزها: الدراسات والمؤلفات، الأدب، الصحافة، الأفلام التسجيلية/ الوثائقية، فضلًا عن أعمال الدراما التاريخية، بما يساهم في إنعاش الذاكرة الجمعية الوطنية.
وواقع الأمر أن العلاقة بين التاريخ والدراما إنما تُمثل موضوعًا قديمًا يتجدد مع كل ظهور لأعمال درامية جديدة تتناول قضايا وموضوعات أو أحداث أو شخصيات تاريخية، وبالأخص خلال شهر رمضان والذي يمثل بدوره- ومنذ سنوات بعيدة- موسم الدراما المصرية، حيث يتنافس فيه الجميع على تقديم الجديد من أعمالهم، لاسيما وأن للدراما، تليفزيونية وإذاعية وسينمائية ومسرحية، تأثير كبير على عقول المشاهدين، هؤلاء الذين يتنوعون بدورهم ما بين المُتعلم والأمي، بين من يحب القراءة ومن لا يهواها، بين من يقرأ التاريخ ومن لا يعبأ به.
على أية حال فإن صُناع الدراما المصرية قد اهتموا، منذ سنوات عديدة، بتقديم الكثير من أعمال الدراما التاريخية، ولعل من بين تلك الأعمال الدرامية التي تم إنتاجها خلال السنوات القليلة الماضية تبرز أعمال: قاسم أمين- أم كلثوم- على مبارك- أسمهان- شيخ العرب همام- الجماعة- حليم- ناصر 56- أيام السادات، ومؤخرًا مسلسل “سرايا عابدين” ومسلسل “صديق العمر”، وأعمال أخرى كثيرة ربما يضيق المقام هنا عن حصرها.
ومن جانبهم فإن المؤرخين يبدون الكثير من الملاحظات على هذه الأعمال، التي لا تخلو من أخطاء تاريخية، والتي تتمثل أبرزها في: تقديم معلومات مغلوطة- اختلاق وقائع وأحداث- تجاهل وقائع وأحداث- وأحيانًا تقديم الحدث بشيء من المبالغة..
وهنا تُثار إشكالية مهمة تتعلق بالحقيقة التاريخية، مع الأخذ في الاعتبار أن الحقيقة هي مسألة نسبية، ذلك أن للتاريخ وجوه كثيرة، فالحقيقة ترتبط بمدى وفرة الوثائق والمعلومات، إلا أنه يستتبع ذلك عدة تساؤلات مهمة من نوع: هل هذه الأعمال الدرامية تقدم التاريخ وتلتزم بأحداثه؟ وهل يهتم مؤلفوها بقيام أحد المؤرخين بمراجعة هذه الأعمال قبل تنفيذها والالتزام بملاحظاته؟! وماذا عن العلاقة بين روايات التاريخ ومتطلبات الدراما من حبكة واختراع شخوص وأحداث؟! كما تُثار إشكاليات أخرى منها ما يتعلق بحق الفنان في حرية الرأي والتعبير والإبداع الفني، ورفض القيود أيًا كانت.. الخ!!
ويمكن القول أننا أمام نوعين أو فئتين من الأعمال الدرامية التاريخية:
الفئة الأولى: وفيها يتصدر التاريخ، السياسي أو الاجتماعي أو كليهما معًا، المشهد الرئيسي، حيث يتناول العمل الدرامي فترة تاريخية أو شخصية تاريخية معينة، ويقدمها بشكل مباشر، مثل فيلم ناصر 56- فيلم أيام السادات- مسلسل قاسم أمين- مسلسل أم كلثوم.
الفئة الثانية: وفيها يكون التاريخ بأحداثه وشخصياته، خلفية لعلاقات اجتماعية متشابكة بين المواطنين، ومن ثم تجمع هذه الأعمال بين الحبكة الدرامية إلى جانب الحقيقة التاريخية، مثل أفلام: بين القصرين- قصر الشوق- السكرية، المأخوذة عن ثلاثية الأديب العالمي الراحل نجيب محفوظ.
وبشكل مبدئي يمكننا الزعم بأننا أمام وجهتي نظر، ينعكس الإيمان بإحداها على تقييم هذا النوع من الأعمال:
وجهة النظر الأولى: أننا أمام أعمال تاريخية في المقام الأول، ومن ثم اعتبار تلك الأعمال الدرامية أعمالًا تقدم التاريخ، وهو ما يستتبع مراجعتها جيدًا والتزامها بالحقيقة التاريخية على حساب متطلبات الدراما أحيانًا.
وجهة النظر الثانية: أننا أمام أعمال فنية في المقام الأول، ومن ثم اعتبارها أعمالًا من صنع أصحابها، تقدم الواقع ممزوجًا بالخيال أحيانًا، وأنها لا تعكس بالضرورة التاريخ كما هو مدون في المؤلفات والأبحاث.
وربما يمكننا هنا طرح محاولة توفيقية للعلاقة بين التاريخ والدراما، في ظل انتشار الأمية التعليمية بين المصريين فضلًا عن الأمية التاريخية والوعي به، وذلك من خلال حث صُناع الدراما على تقديم أعمال درامية تاريخية تلتزم بالتاريخ ووقائعه وتواريخه وشخصياته، في ظل التزام أدبي وأخلاقي وعلمي، أعمال تهتم بالحبكة الدرامية دون الخروج على النص التاريخي، إن جاز لنا استخدام هذا التعبير، وهو ما يستلزم بذل الكثير من الجهد في التأليف والإخراج، مع مراجعة تاريخية جادة من قبل المتخصصين والأخذ بملاحظات المؤرخين، ذلك أن كل تدقيق هو لصالح العمل أولًا وأخيرًا.
ومن ثم فإن هذه الأعمال الدرامية، التليفزيونية منها خاصة وبحكم أن التليفزيون وسيلة إعلام جماهيرية، إنما تحتاج إلى كُتّاب على درجة عالية من الوعي بالتاريخ، تذوقًا واستيعابًا وكتابةً، لاسيما وأن الدراما التليفزيونية تدخل كل بيت مصري مما يجعل لها تأثيرًا كبيرًا على عقول المشاهدين من شتى الألوان والأطياف.