إذا أراد الإنسان فهم الأسباب الشخصية التي تُحدث الإضطراب والتشويش في حياتنا الاجتماعية، لا فرق مهما تنوعت أسماء هذه الأسباب، واختلفت مظاهرها وطالت القائمة، المحتوية عليها، فإنه يجد إنها كلها ترجع الى سبب واحد، وهو هذا الخلط بين الضروري والغير الضروري من الحاجات..
فالرفاهية المادية، والتهذيب والحرية، والمدنية بأسرها كل هذا لا يؤلف سوى غلاف (إطار) للصورة التي نحن في حاجة إليها، والغلاف لا يستطيع أن يعمل الصورة. فالصورة هنا هي الإنسان بجميع مقتنياته الحقيقية، هي ضميره وأخلاقه وإرادته. ولكننا لسوء حظنا، فيما كنا نتقن صنع الغلاف ونبالغ في زخرفته وتزيينه، قد سهونا عن الصورة، وأهملناها وشوهنا منظرها. لذلك ترانا نبالغ في زينتنا الخارجية، وفضائلنا الظاهرة، ولكننا تعساء في بعض الشئ في حياتنا الروحية الداخلية. وعندما تفيق ذاتنا الكبرى من غفلتها، وترى ذاتها محاطة بجيوش الحاجة إلى المحبة والطموح للبلوغ إلى الخطة المرسومة لنا، تشعر بالآلام المبرحة وتدرك أن وفرة من الحاجات غير الضرورية، آخذة بخناقنا ويثقل كاهلنا ليجردنا من النور والحياة.ويظن البعض أن البساطة هي السذاجة، أو الجهل وعدم المعرفة ! لذلك يرفضون التثقف أو تعلم أشياء جديدة، باعتبارها تعقيداً للحياة البسيطة التي درجوا عليها! ويظن اّخرون أن البساطة هي الإهمال والتسيب، وعد الالتزام بادأب التعامل الراقي أو المهذب.
وتُقترف باسم البساطة حماقات كثيرة، حين يأتي البعض بأعمال تتنافى مع الذوق العام، أو مع مبادىء القواعد السلوكية أو الصحية، أو تتعارض مع حرية الآخرين في تنظيم حياتهم! والذين يفعلون هذه الأشياء بحجة البساطة يحطمون المعاني السامية لهذه القيمة السلوكية الرائعة.
البساطة بصفة عامة هي الخلو من الخلط والتعقيد والإلتواء، وهي تقوم على التلقائية وعدم التصنع. ولا يكون الإنسان بسيطاً ما لم تكن البساطة طابعاً عاماً لحياته كلها، فهي بساطة العيش، وبساطة الفكر، وبساطة السلوك، وبساطة القلب وبساطة الروح، وبساطة الكلام.
الوان من البساطة
بساطة العيش : الإنسان البسيط يضع طابعه على طريقة معيشته. والعيش يشمل شكل الحياة وصورتها في المسكن، والملبس، والطعام والشراب. وغير ذلك من متطلبات الحياة. ويستطيع البعض جعل هذه الأشياء بسيطة ووافية للغرض. في حين يجعلها آخرون معقدة وغير عملية، أو غير متجانسة أو غير ضرورية. وقد ترتبط المعيشة بعض الشيء بالمستوى الاجتماعي. لكن هذا لا يعني بالمرة أن البساطة هي الفقر والحاجة. فهناك أثرياء كثيرون يعيشون حياة البساطة الاختيارية دون حاجة إلى تقتير ما فوق الطاقة في تلوين معيشتهم بمظاهر العظمة. أن القناعة والرضا وليس الفقر والحاجة هما العاملان المؤثران في توجيه الناس إلى بساطة العيش.
بساطة الفكر: لا تعني بساطة الفكر أن يفكر الإنسان تفكيراً سطحياً أولياً، أو تفكيراً طفولياًساذجاً. لكن بساطة الفكر هي سلامة النية، ووضوح القصد والبعد عن التمويه والخداع. فبساطة الفكر لا تتنافى مع عمق الفكر وذكائه، لكنها تتعارض مع التعقيد والغموض والإلتواء.بساطة الفكر هي ثمرة النوايا الصادقة والإخلاص ووضوح الرؤيا.
بساطة السلوك : تتميز بساطة السلوك بالتلقائية، وعدم التصنع. فالإنسان البسيط لا يضع نفسه في قالب خاص من صنعه هو ليظهر على حال غير حاله، على حين يلجأ المعقدون للتصنع لإخفاء النقائص أو لإدعاء الكمالات. قليلون يستطيعون الاحتفاظ ببساطة السلوك مهما تغيرت ظروفهم.
بساطة القلب :حين نتحدث عن القلب، إنما نقصد به داخل الإنسان، ومركز ولائه، وبؤرة اهتماماته وعمق نواياه.والقلب البسيط هو القلب الذي يشف عن اهتماماته، ويعلن عن نواياه ومحتواه. أما صاحب القلب الذي ينطوي على أشياء فاسدة، فإنه لا يستطيع ان يبسطها امام الناس بل يطوي عليها قلبه، ومن ثم لا يكون قلبه بسيطا. حين تنطوي القلوب على الضغائن والاحقاد، يفقد القلب نقاءه وشفافيته، وحين يفقد القلب النقاء، يتحول الى جحر مليء بالخفايا، ويفقد تماما بساطته.
أن بساطة القلب تتمثل في النقاء الخالص، والولاء الصريح، والحب غير المختلط، والنوايا الصادقة.
بساطة الكلام : الكلام هو المظهر الأول للفكر، بل هو الصورة الأولى التي يتخذها الفكر عند ظهوره. وما في الفكر كذلك في الكلام، فإن الإنسان لكي يتقدم في طريقه إلى البساطة الحقيقية، يجب أن يجعل حارساً على شفتيه كما على قلبه. لأن الكلمة كالفكر يجب أن تكون نقية صحيحة سليمة. فافتكر بحق وتكلم بصراحة ووضوح. فأن أصل جميع العلاقات الاجتماعية كائن في الثقة المتبادلة، وهذه الثقة لا يمكن أن ننالها إلا عن طريق الإخلاص بعضنا لبعض. وإذا قل الإخلاص، ضعف الإيمان، وتألم المجتمع الإنساني، وكثرت الظنون، وتسللت شياطين الشك إلى القلوب.
في الروح النفعية والبساطة
ما هومقدار المنفعة التي أجنيها من هذا العمل أو ذاك؟ أن هذا السؤال الذي يبدو صحيحاًشرعياً عندما ينظر من خلاله إلى التحفظات التي يتخذها كل واحد منا لكي يكفل ما يقابل عمله من الرزق والمكسب، يصير ضاراً مؤذيا عندما يتجاوز حدودهم ويسود على الحياة بأسرها.
أن أعظم الأخطاء الاجتماعية أن يجعل الإنسان مجرد الربح هو الباعث الوحيد على العمل. فأن أفضل ما نصنعه في عملنا سواء كان هذا العمل بقوة العضلات، أم بحرارة القلب، أم بجهد الفكر وحصره، إنما هو الجزء الذي لا يستطيع أحد أن يدفع لنا ثمنه. وما من شيء يستطيع أن يبرهن لنا أن الإنسان ليس بالآلة المتحركة، مثل هذه الحقيقة. يشتغل رجلان في عمل واحد بآلات متساوية، فتأتي ثمرات عملهما مختلفة. فما هو السبب في هذا الإختلاف؟ إنه، ولا شك، إختلاف الإتجاه في مقاصد كل منهما.
ما من شيء يشوش نظام الحياة، ويفسد آداب الناس، ويلوي مسالك المجتمع الإنساني الطبيعية ويضلها، مثل نمو روح النفعية، لأنها حيثما سادت ساد معها الغش والخداع بين الناس واضمحلت ثقة الإنسان بأخيه الإنسان.