يتحجّج العروبيون المُعادون للغة شعبنا المصري بحديث منسوب لــ”طه حسين” قال فيه:”يوسف إدريس أضاع نفسه. فالعامية ليست شيئًا يذكر وكذلك كل ما يُكتب بغيراللغة الفصحى”.. ومع أنني أعتبر “طه حسين” أحد التنويريين العظام، فإنني أختلف معه، خاصة أنه هو الذي كتب أن اللغة العربية عسيرة ونحوها عسير وكتابتها عسيرة. وأن كثيرًا من الناس يقولون إنها لغة أجنبية وستصبح لغة دينية. وتمنى إلغاء النحو وكتب إما أنْ تيسر علومها لتحيا، وإما أنْ نحتفظ بها كما هي لتموت. وأكد على أنها إنْ لم تكن أجنبية فهى قريبة من الأجنبية، لايتكلمها الناس في البيوت ولايتكلمونها في الأزهرنفسه (مستقبل الثقافة في مصر- دارالكاتب اللبناني- مجلد9 عام 73 من ص 246- 311).
وكان الإمام محمد بن أبي بكرالرازي دقيقاً إذْ كتب في شرح كلمة فصيح (رجل فصيح وكلام فصيح أي بليغ ولسان فصيح أي طلق..إلخ) (مختارالصحاح- المطبعة الأميرية بمصر- ط 1911 ص 529) وأكد علماء اللغويات على أنه لاتوجد لغة فصحى وأخرى عكسها. لأنّ الفصاحة صفة إنسانية. ويستدلون على ذلك بما فعله “شكسبير”.. و”دانتي” الذي كتب كتاباً (عن البلاغة العامية)، والذي دعا فيه إلى الكتابة بلغة الشعب. وطبّق ذلك على نفسه فكتب “الكوميديا الإلهية” باللغة الإيطالية التي كان المتعصبون يحتقرونها ويرون أنها (عامية اللاتينية).. وكتب د. حسن عثمان في مقدمته:”قام دانتي بعمل يساوي خلق لغة جديدة عندما جعل لهجة فلورنسا العامية لغة غنية قوية، رقيقة سخية قادرة على التعبيرعن كل شيء” (دارالمعارف المصرية – 1988- ج1- الجحيم ص66).
لغة الحياة اليومية ليستْ (عامية) العربية:
تصرالثقافة السائدة على وصف لغة الحياة اليومية بأنها (عامية العربية) ومع ذلك يعجزالعرب عن التواصل اللغوي فلماذا؟ لماذا لايستطيع المواطن السعودي فهم لغة المواطن المغربي؟ إلخ فلو أنّ (العامية) واحدة لوجب التفاهم وانتفى الحاجزاللغوي. يقول علماء اللغويات أنّ (عامية) كل شعب لها بنيتها اللغوية الخاصة بها، حتى لواشتركت هذه الشعوب في لغة (رسمية) واحدة. ويُدلّلون على ذلك بأنه لا توجد صعوبة في التفاهم بين أبناء الشعب الواحد. فاللبناني يتفاهم مع اللبناني، والعراقي مع العراقي إلخ. ولكن لايحدث العكس. فاللبناني لايفهم لغة العراقي إلخ. لأنّ (البنية) اللغوية اللبنانية مختلفة عن (البنية) اللغوية العراقية. وبناءً على ذلك فإن ما يُكتب عن أنّ (العاميات العربية) أصلها اللغة العربية (في نحوها وصرفها إلخ) تعبيرغيرعلمي حتى لوكانت (كل) الكلمات عربية. ولذلك كتب “د. نبيل علي” المتخصص في علم اللغويات:”إنّ ضمورالعقل اللغوي النظري لدينا يرجع إلى سببين هما: جفاف الروافد العلمية التي تصب في مسارالتنظيراللغوي، والتخلف عن مواكبة ما أفرزته الثورة اللسانية الحديثة من نظريات).. وأكد على أنه تم اكتشاف مجموعة الجينات التي تقوم بالمهام اللغوية المركبة التي لايمكن أنْ يقوم بها جين منفرد (مجلة العربي الكويتية. نوفمبر2006).
وكتب المرحوم “بيومي قنديل” أنّ وصف اللغة العربية بــ (الفصحى) وصف غيرعلمي، لأنّ العروبيين حاولوا نقل المصطلح الأجنبي Standard Language ومعناه اللغة النموذجية أو المعيار. وأنّ (سائرالأطفال في مختلف أرجاء المعمورة يتوجّهون إلى المدرسة وهم يُتقنون المهارتيْن الأولتين للغتهم القومية. وهما السماع – الفهم والتعبير- النطق، ولايكون عليهم أنْ يتعلموا في المدرسة إلاّ المهارتيْن الأخرتين: القراءة والكتابة. فاللغة هي اللغة المنطوقة. أما اللغة المكتوبة فليستْ إلاّ تمثيل لما هومنطوق. وكل تغير يحدث في النسق الكتابي لابد وأنْ يكون قد سبقه تغير في النسق المنطوق. ويُقدّرالعلماء عمراللغة البشرية بما يزيد على مليون سنة فيما لايتجاوزعمرأقدم نسق كتابي ستة آلاف عام) ورغم أنه ذكرهذه الحقيقة العلمية أكثرمن مرة خاصة في كتابه (حاضرالثقافة في مصر) الذي أصدرطبعته الرابعة عام 2008، فإنّ أحدًا ممن يرون أنّ لغتنا المصرية (عامية العربية) لم يرد عليه بذات منهجه العلمي.
وإذا كانت لغة المصريين لاتصلح للكتابة الأدبية، فلماذا يُعاد طبع قصص يوسف إدريس؟ ولماذا تكون حوارات شخصياته أكثر حميمية وأكثر مصداقية (على المستوى الفني) من حوارات غيره الذين يكتبون الحواربالعربي؟ إنّ الست أمينة في الثلاثية تدخل على طفلها كمال وتسأله:(هل يريد سيدي شيئًا قبل أنْ ينام؟) فشعرتُ أنني أمام سيدة من العصورالوسطى العربية وليست بنت المصريين في القرن العشرين. وأعتقد أنّ يوسف إدريس انحاز للصدق الفني، ولم يرتعب من طغيان الثقافة السائدة المعادية للغة شعبه. ولماذا نقرأ ونحفظ أشعار بيرم وأحمد فؤاد نجم وعبدالرحيم منصور؟ وماذا عن صلاح جاهين الذي صاغ أعقد القضايا الفلسفية شعرًا بلغة شعبه؟ لنقرأ (منين أجيبها كلمة متألمة / لعبية فايرة حايرة ومصممة/ منين أجيبها كلمة تكون بنت أرض / تشفي اللي ما شفاهوش كلام السما) وكيف لخص نهاية حياة الإنسان مهما كان وضعه الاجتماعي (ضريح رخام فيه السعيد إندفن/ وحفرة فيها شريد من غيركفن/ مرّيتْ عليهم.. قلت يا للعجب/ الاتنين ريحتهم فيها نفس العفن) وكيف صاغ إرادة الكائنات الصغيرة فىي مواجهة بطش الكبار(يا اللى إنت بيتك قش مفروش بريش/ تقوى عليه الريح يصبح مفيش/ عجبي عليك حواليك مخالب كبار/ ومالكش غير منقار وقادرتعيش)
بلاغة اللغة المصرية:
توقف عالم روسي أمام كلمة (أكسعمك) وظلّ يبحث عن أصلها فوجد أنها مكونة من كلمتين عربيتين : أكسحك وأعميك. وقال إنّ هذا (نحت) مصري للكلمات العربية. كما أننا نحن المصريين نستخدم الكثيرمن الكلمات العربية ولكن بمعنى مختلف عن أصلها العربى. مثل كلمة (زنأ) فمعناها في مختارالصحاح غيرمعناها المصري. ومثل كلمة (عكروت) التي تعني بالمصري الولد الحدق، فى حين أنّ معناها في سوريا (القواد) أما معناها في قواميس اللغة العربية فهي (الرجل الذي ثقبت شحمة أذنه أي العبد لتمييزه عن الرجل الحر) (الكاتب السوري عبدالهادي البكار- صحيفة القاهرة 19/7/2005).. أما كلمة (دغدغ) فهي بالعربي تعني زغزغة المشاعر، في حين أنّ المصري يستخدمها بمعنى مختلف فيقول: أدغدغ دماغك. أي أكسردماغك. وهوالأمر الذي انتبه إليه “أ. دريني خشبة” في كتابه (أساطيرالحب والجمال عند الإغريق).
ونرفض بعض الكلمات العربية التي لاتعبرعن ثقافتنا القومية مثل كلمة (علج) الواحد من كفارالعجم والجمع علوج (مختارالصحاح ص474) وكتب “إسماعيل أدهم” (17/2/ 1911- 23/7/ 1940) يخاطب جدودنا المصريين للتحررمن اللغة العربية. وقال إنه منذ حطّ رحاله في مصرلدراسة حياتها الاجتماعية والأدبية وقف على ثروة جديدة هى اللغة المصرية. وأنّ القول بأنها عامية العربية خطأ. وقال:(هذه هي لغتكم وهي أولى بعنايتكم من إحياء لغة بدو لا يربطكم بهم صلة ولا رابط) (المؤلفات الكاملة – قضايا ومناقشات – دارالمعارف 1986 ص65).. وكتب المفكرالسعودي عبد الله القصيمىي:(إنّ تخلفنا البلاغي ليس أقل من تخلفنا الفكري أوالعلمي أوالصناعي أوالفني. إنّ اللغة العربية هي لغة أفعل. أيها العرب هذه هي لغتكم هي كل مستوياتكم. خذوها. إنها هي أنتم. فإنها لن تجيء على مقاس غيركم) (العرب ظاهرة صوتية – منشورات الجمل – ط 2000 ص204 ،411) هذا مع ملاحظة أنني اخترتُ أقل تحليلاته حدة في كتابه المكون من 717 صفحة من القطع الكبير. والشيء الملفت للنظرأنّ المدافعين عن اللغة العربية لم يبذلوا أي جهد علمي للوقوف على ظاهرة أنّ مدرسي اللغة العربية في المدارس والجامعات وفي أقسام اللغة العربية يلجأون للغة المصريين في الشرح وحتى في دروس النحو(د. أحمد مسلم في رسالة نشرها أ. فاروق شوشة – أهرام 8/8/2004) وعن الشعراء العرب الذين يكتبون قصيدة النثر كتب الشاعرأحمد عبد المعطي حجازي (نقرأ للذين يكتبون هذا النوع من الكتابة. فنجد أخطاء لا يقع فيها تلاميذ المدارس. وأدهشنا أنْ يقع عدد من المدعوين العرب في أخطاء مخجلة) (أهرام 2/5/2001)، بل إنّ المدافعين عن اللغة العربية لا يرحمهم المتعصبون لهذه اللغة مثلما حدث مع أ. شريف الشوباشي الذي أدلى بحديث قال فيه (إنني مثل أي شخص أعاني من شيزوفرينيا لغوية. فأنا أفكرباللغة الدارجة. وأي شخص يدعي أنه يفكر بالفصحى يكون كاذبًا ومنافقًا. فنحن نفكردائمًا بأقرب لغة لدينا وهي اللهجة الدارجة. وبعد هذا أبذل مجهودًا لكي أفكر باللغة العربية. هناك خطر حقيقي على اللغة العربية. وأنا أقول أنه بعد مائة عام ستصبح اللغة العربية لغة للدراسة فقط) (القاهرة 7/9/2004) وكتب أ. جلال عامر(لغتنا العربية يسرلا عسرولاتواكب العصر) (القاهرة 7/11)2006) وفي الوقت الذي يهاجم فيه المصريون العروبيون لغة شعبهم المصري، نجد مذيعي البرامج الحوارية في الفضائيات العربية يسألون الضيوف: مغربي مع عراقي. وتونسي مع كويتي (بتحبوا نحكي مصري؟)، يبتهج الضيوف ويبتسمون بعذوبة. وفي كل مرة تكون الإجابة واحدة (نعم . بنحب نحكي مصري علشان بنفهم بعض).