الفقراء يرثون الذل.. من مأساة لمأساة تسلمهم الحياة.. فلا الأحزان تمضي ولا العلل تشفي.. ولا الصدور التي ضاقت وأصابها الضجر تهدأ في ارتياح.. عصير الروح في سراديب العوز راح.. وما بقي منهم إلا أشباه بشر.. إنه ملخص المشهد المبكي في إحدي حارات حي شبرا.. عطفة داخل حارة بشارع في حي شعبي جدا.. دهاليز البيت تنبئ بحال ساكنيه.. أسفل السلم دورة مياه بها مرحاض وحوض مشترك للجميع.. علي اليمين غرفة تنطلق منها رائحة الأزمنة المريرة عبر عشر سنوات من الحاجة والمرض.. دخلت إليها.. جدران باهتة.. أكل برد الأيام ألوانها.. سرير واحد للجميع.. والأسرة من أربعة أفراد.. شلتة فوق الأرض للضيوف اتكأت فوقها الخادمة التي اصطحبتني إلي هناك.. رفعت عيني إلي أعلي فوجدت فوقي طاقة لا ترتقي لمستوي النافذة.. وكأن الحجرة أشبه بزنزانة.. إلي يميني دولاب صغير وإلي يساري جلس الزوج الكفيف.. في أحضان الخادمة تريزا ألقي الطفل الصغير بنفسه باكيا.. وعلي الأرض عند حافة الغرفة جلست خالته تدعوه إلي حضنها ربما يهدأ.
إلي جواري راحت تروي حكايتها.. إنها اللاعب الرئيسي في المشهد.. مني.. امرأة في الأربعين من عمرها.. لم تنل من الحياة لا تعليما ولا راحة.. متزوجة ولديها طفلان.. أصيب زوجها بانفصال في الشبكية منذ ثلاث سنوات.. كانت حينها بصحتها.. تطور الوضع ففقد الزوج بصره تماما.. وصار قعيدا في المنزل.. بالحوار معه اكتشفت أيضا أنه مصاب بشبه إعاقة في النطق.. ربما تكون ناتجة عن مشكلة ذهنية.. انكفأت علي استنتاجاتي وقررت الصمت والإنصات إلي الجميع.. وبدأنا بالطفل شادي قال في لهفة ماما بتضربني.. عورتني وهي اللي عملت في كل العلامات اللي في وشي دي.. نظرت إلي الطفل فوجدته وقد أصيب بجروح وكدمات بالغة الأثر في وجهه وبالقرب من عينيه.. تفحصت وجه الخادمة الأمينة التي أوصلتني لحالة مني.. فأشارت لي بالانتظار قليلا.. استمعت إلي مني التي بدأت تروي قائلة: نحيا علي الكفاف والكنيسة تساعدنا أحيانا.. راتب زوجي يسري لكن 600 جنيه لا تكفي للحياة والعلاج.. منذ أن أصبت بالسرطان ونحن لا نعلم كيف تمضي الأيام.
استوقفتها بعد أن تطلعت إليها وإذا بضآلة جسد غير طبيعية مومياء في شكل بني آدم.. إعياء تام.. سألتها وكيف ومتي علمت أنك مصابة بالسرطان فأجابت: منذ شهور أصابني وجع شديد بالمعدة.. وقئ مستمر.. توجهت للأطباء فرشحوا لي أدوية لقرحة المعدة.. وفي النهاية طلبوا مني إجراء منظار.. ظهرت النتيجة قرحة بالمعدة.. ظللت فترة طويلة أتناول علاجا خاطئا.. ثم انهارت حالتي تماما وانقطعت عن الطعام نهائيا فاضطررت لتغيير الطبيب.. وحينها طلب منظار مرة أخري.. وانصعت للطلب وجاءت النتيجة هذه المرة مختلفة.. اكتشفوا وجود سرطان بالمعدة.. بدأت رحلة العلاج بالكيماوي.. منذ أول يوليو.. خرجت من الجلسة الأولي إلي غرفة الإنعاش.. لمدة أسبوع لم أحتمل العلاج الكيماوي.. لكن مضت الجلسات وأنا مازلت علي العلاج.. لكن للأسف لا أتمكن من دفع تكلفة الجلسات التي تتكلف آلاف الجنيهات.. ولا أتمكن من الإنفاق علي علاج ابني المعاق والذي يتكلف شهريا 300 جنيه.. أما الأمر الثاني الذي يشغلني هو ابني المعاق.
نظرت إليها في دهشة ماذا تقصدين فأجابت: أعلم جيدا أن مصيري محتوم عن قريب عاجل أو قريب غير عاجل.. فأين يذهب ابني المعاق.. شادي عمره تسع سنوات.. فادي الأصغر عمره أربع سنوات.. بالنسبة لفادي خالته وعدتني أنها سترعاه وسط أبنائها.. وستتكفل بتربيته.. هو سليم ولن يرهقها.. أما شادي المعاق ذهنيا.. فمن سيحتمله.. أود فقط إدخاله أي دار لذوي الاحتياجات الخاصة تمهيدا لموتي, ففي كل الأحوال سأرحل ويبقي هو.. فليبقي في مأمن بدلا من المصير المجهول بعدي.. أنا أمه وبالرغم من ذلك أحيانا أثور وأضربه وأركله, فما بالك بالغريب ماذا سيفعل معه.. سيتشرد من بعدي.. سيرمونه في الأزقة والشوارع مثل الكلاب الضالة بلا راعي ولا معيل.. أرجوكم ارعوا شادي إنه أمانة في أعناقكم.
عقد الحزن لساني.. تركت مني وخرجت بصحبة الخادمة نبكي باحثتين عن مخرج, ومازلنا نبحث حتي الآن, ومازالت مني تتألم.