فاجأنا المهندس إبراهيم محلب منذ عدة أسابيع بتصريح مفاده أن الحكومة عاكفة علي دراسة مشروع طموح يهدف إلي إقامة مجمع وزارات ومصالح حكومية جديد علي طريق القاهرة-السويس تنقل إليه مقار الوزارات والأجهزة الرسمية التابعة لها لتخفيف شدة التكدس الذي تعاني منه القاهرة سواء في المنشآت أو في الخدمات أو في المواصلات.
هذا المشروع الكبير أعاد إلي الأذهان تجربة مماثلة سبقته بنحو أربعة عقود عندما قرر الرئيس أنور السادات -في غمار مشروعات المدن الجديدة التي بدأت في عهده- إقامة مدينة حملت اسمه مدينة السادات تبعد عن القاهرة العاصمة حوالي ثمانين كيلو مترا علي طريق القاهرة-الإسكندرية الصحراوي وتكون بمثابة مجمع للوزارات لنقل الوزارات خارج القاهرة… وبالفعل تم تأسيس مدينة السادات وإنشاء مجمع الوزارات فيها بالإضافة إلي القطاعات الأخري التي اشتمل عليها التخطيط العام لها من صناعات خفيفة ومجمعات خدمات ومناطق سكنية وانتظر المصريون بشغف التغيير المرتقب لنقل الوزارات من القاهرة إلي مدينة السادات لكن الشهور مرت والسنوات تعاقبت ورحل الرئيس السادات دون أن يري حلمه النور, فلم تنتقل أي وزارة أو مصلحة حكومية من مقرها في القاهرة, بل علي العكس توسعت وزارات في مواقعها بالقاهرة وخرجت وزارات من قلب القاهرة إلي مجمعات جديدة ضخمة علي أطراف القاهرة مضيفة إلي مشاكل التكدس والازدحام أبعادا جديدة.
وتساءل المخططون: كيف أجهض هذا المشروع الكبير وتبخرت أهدافه معه؟ وجاءت الإجابة التي اعتدنا عليها: غياب القرارالسياسي الشجاع الذي يؤمن بالهدف ويجعل منه جزءا راسخا من التخطيط القومي لا يتعثر أو يلغي بتغير المسئولين… فبينما كان الهدف من المدن الجديدة الاتجاه خارج القاهرة إلي الصحراء -سواء شرقا أو غربا- وسحب كثافة سكانية تقارب نصف سكان القاهرة خارجها, الأمر الذي وصفه أحد المهندسين المرموقين بأن من شأنه أن يسعد حياة النصف الذي سيخرج وأيضا النصف الذي سيبقي علي السواء, تحول الواقع بعد أربعين عاما من بدء تأسيس المدن الجديدة إلي خلق تجمعات صناعية وسكنية وخدمية شكلت إضافة حقيقية للنشاط الاقتصادي لكن دون سحب أي كثافة سكانية تذكر من القاهرة والدليل علي ذلك ما نراه حاليا من هول الحركة الآلية علي الطرق الخارجة من القاهرة إلي تلك المدن صباحا وتكرار ذلك في اتجاه العودة للقاهرة مساء, مما أدي إلي إضافة أعباء رهيبة علي شبكات الطرق وتطلب إنفاق مليارات الجنيهات في توسعتها وإقامة الكباري والأنفاق عليها….
وطبعا لم يفت من تصدوا لدراسة هذا الإخفاق أن يسجلوا أمرين في غاية الأهمية:
الأول غياب القدوة في عدم انتقال الرؤساء والمسئولين والوزراء وأصحاب الأعمال وغيرهم إلي مواقعهم الجديدة وبالتالي تقاعس من يليهم من القيادات والمديرين وكبار الموظفين عن ذلك وانتقال العدوي إلي أصحاب الوظائف المتوسطة الذين استعاضوا عن الانتقال للسكن في المدن الجديدة بمطالبة رئاساتهم بتدبير أساطيل من الأتوبيسات لنقلهم كل يوم من أماكن إقامتهم في القاهرة إلي أماكن عملهم ثم إعادتهم مرة أخري في نهاية اليوم وهو ما نعايشه علي تلك الطرق ويساهم بشكل كبير في تكدسها, وانحسر من انتقلوا للعيش في المدن الجديدة بجوار مقار عملهم في شرائح الوظائف الدنيا والعمالة التي تشغل قاعدة الهرم الوظيفي أو المهني وهي الشرائح التي ذهبت سعيا وراء الحصول علي سكن اقتصادي والتخلص من عبء المواصلات اليومية.
أما الأمر الثاني الذي أزعج -ومازال يزعج- المخططين جدا هو السماح ببيع الأراضي المطلة علي الطرق الرئيسية التي تربط القاهرة بالمدن الجديدة وهو الخطأ الخطير الذي يطعن فكر المدن الجديدة في الصميم… فالعواصم التي سبقت القاهرة في تخطيط المدن الجديدة حولها لسحب الكثافة السكانية خارجها مثل لندن وباريس وغيرهما أطلقت علي المدن الجديدة اسم مدن الأقمار ووضعت لكل منها حيزا عمرانيا لا تتجاوزه يبعد بمسافة محددة عن المدينة الأم ومنعت تماما بيع الأراضي علي الطرق التي تربط الأم بالأقمار حتي لا ينمو أي عمران عشوائي سرطاني يؤدي في النهاية إلي اتصال الأم بالأقمار عمرانيا وتحولها إلي وحش عمراني هائل يخرج عن حدود السيطرة… ولعل هذا الغول العمراني هو ما نراه عندنا إذا ما تأملنا اجتياح المشروعات التجارية والتعليمية والسكنية والخدمية لجانبي الطرق الرئيسية الخارجة من القاهرة إلي الإسكندرية -عبر 6 أكتوبر- أو إلي الإسماعيلية أو إلي السويس ذلك الغول العمراني المرعب يهدد بأنه قبل حلول عام 2050 سوف تمتد القاهرة التي يطلق عليها الكبري لتشغل أكثر من منتصف المسافة إلي الإسكندرية غربا والإسماعيلية والسويس شرقا وستبتلع مدنا أخري مثل بنها شمالا والفيوم جنوبا!!!.
إذا واقع فكر المدن الجديدة -وضمنها المدينة الحكومية أو مجمع الوزارات- التي يبشر بها المهندس إبراهيم محلب ليس واقعا ورديا كما يتصوره غير العالمين ببواطن الأمور, وإذا لم تتوفر الإرادة السياسية الصارمة لتطبيقه والإصرار الإداري والتشريعي علي حمايته لن نحصد منه إلا مزيدا من التخبط واستفحال المشاكل وتحول الأحلام الطموحة إلي كوابيس وكوارث تخرج عن حدود السيطرة.
هذا من الناحية التخطيطية أما إذا تطرقنا إلي مستلزمات تأسيس مدينة للوزارات والمصالح الحكومية فلا يعتقد أحد أنها تنحصر في مباني مكاتب وإدارات فقط بل إنها تحتاج تخطيطا شاملا لمدينة سكنية خدمية تكون الوزارات النواة في مركزها وتمتد حولها مناطق لسكني كافة العاملين فيها من الوزير إلي الغفير مع كل احتياجاتهم من الخدمات التعليمية والعلاجية والتجارية والترفيهية والأمنية والرياضية وغيرها… هذا إذا أردنا أن نسحب بها ذلك العبء الثقيل من القاهرة ولا نكرر أخطاء الماضي فيها… أما ما حدث بالفعل ومازال يحدث ويتراكم من خطايا المدن الجديدة وعلاقاتها غير الشرعية بالقاهرة فلست أدري كيف ومتي سنتوب عنها!!!.
هذا المشروع الكبير أعاد إلي الأذهان تجربة مماثلة سبقته بنحو أربعة عقود عندما قرر الرئيس أنور السادات -في غمار مشروعات المدن الجديدة التي بدأت في عهده- إقامة مدينة حملت اسمه مدينة السادات تبعد عن القاهرة العاصمة حوالي ثمانين كيلو مترا علي طريق القاهرة-الإسكندرية الصحراوي وتكون بمثابة مجمع للوزارات لنقل الوزارات خارج القاهرة… وبالفعل تم تأسيس مدينة السادات وإنشاء مجمع الوزارات فيها بالإضافة إلي القطاعات الأخري التي اشتمل عليها التخطيط العام لها من صناعات خفيفة ومجمعات خدمات ومناطق سكنية وانتظر المصريون بشغف التغيير المرتقب لنقل الوزارات من القاهرة إلي مدينة السادات لكن الشهور مرت والسنوات تعاقبت ورحل الرئيس السادات دون أن يري حلمه النور, فلم تنتقل أي وزارة أو مصلحة حكومية من مقرها في القاهرة, بل علي العكس توسعت وزارات في مواقعها بالقاهرة وخرجت وزارات من قلب القاهرة إلي مجمعات جديدة ضخمة علي أطراف القاهرة مضيفة إلي مشاكل التكدس والازدحام أبعادا جديدة.
وتساءل المخططون: كيف أجهض هذا المشروع الكبير وتبخرت أهدافه معه؟ وجاءت الإجابة التي اعتدنا عليها: غياب القرارالسياسي الشجاع الذي يؤمن بالهدف ويجعل منه جزءا راسخا من التخطيط القومي لا يتعثر أو يلغي بتغير المسئولين… فبينما كان الهدف من المدن الجديدة الاتجاه خارج القاهرة إلي الصحراء -سواء شرقا أو غربا- وسحب كثافة سكانية تقارب نصف سكان القاهرة خارجها, الأمر الذي وصفه أحد المهندسين المرموقين بأن من شأنه أن يسعد حياة النصف الذي سيخرج وأيضا النصف الذي سيبقي علي السواء, تحول الواقع بعد أربعين عاما من بدء تأسيس المدن الجديدة إلي خلق تجمعات صناعية وسكنية وخدمية شكلت إضافة حقيقية للنشاط الاقتصادي لكن دون سحب أي كثافة سكانية تذكر من القاهرة والدليل علي ذلك ما نراه حاليا من هول الحركة الآلية علي الطرق الخارجة من القاهرة إلي تلك المدن صباحا وتكرار ذلك في اتجاه العودة للقاهرة مساء, مما أدي إلي إضافة أعباء رهيبة علي شبكات الطرق وتطلب إنفاق مليارات الجنيهات في توسعتها وإقامة الكباري والأنفاق عليها….
وطبعا لم يفت من تصدوا لدراسة هذا الإخفاق أن يسجلوا أمرين في غاية الأهمية:
الأول غياب القدوة في عدم انتقال الرؤساء والمسئولين والوزراء وأصحاب الأعمال وغيرهم إلي مواقعهم الجديدة وبالتالي تقاعس من يليهم من القيادات والمديرين وكبار الموظفين عن ذلك وانتقال العدوي إلي أصحاب الوظائف المتوسطة الذين استعاضوا عن الانتقال للسكن في المدن الجديدة بمطالبة رئاساتهم بتدبير أساطيل من الأتوبيسات لنقلهم كل يوم من أماكن إقامتهم في القاهرة إلي أماكن عملهم ثم إعادتهم مرة أخري في نهاية اليوم وهو ما نعايشه علي تلك الطرق ويساهم بشكل كبير في تكدسها, وانحسر من انتقلوا للعيش في المدن الجديدة بجوار مقار عملهم في شرائح الوظائف الدنيا والعمالة التي تشغل قاعدة الهرم الوظيفي أو المهني وهي الشرائح التي ذهبت سعيا وراء الحصول علي سكن اقتصادي والتخلص من عبء المواصلات اليومية.
أما الأمر الثاني الذي أزعج -ومازال يزعج- المخططين جدا هو السماح ببيع الأراضي المطلة علي الطرق الرئيسية التي تربط القاهرة بالمدن الجديدة وهو الخطأ الخطير الذي يطعن فكر المدن الجديدة في الصميم… فالعواصم التي سبقت القاهرة في تخطيط المدن الجديدة حولها لسحب الكثافة السكانية خارجها مثل لندن وباريس وغيرهما أطلقت علي المدن الجديدة اسم مدن الأقمار ووضعت لكل منها حيزا عمرانيا لا تتجاوزه يبعد بمسافة محددة عن المدينة الأم ومنعت تماما بيع الأراضي علي الطرق التي تربط الأم بالأقمار حتي لا ينمو أي عمران عشوائي سرطاني يؤدي في النهاية إلي اتصال الأم بالأقمار عمرانيا وتحولها إلي وحش عمراني هائل يخرج عن حدود السيطرة… ولعل هذا الغول العمراني هو ما نراه عندنا إذا ما تأملنا اجتياح المشروعات التجارية والتعليمية والسكنية والخدمية لجانبي الطرق الرئيسية الخارجة من القاهرة إلي الإسكندرية -عبر 6 أكتوبر- أو إلي الإسماعيلية أو إلي السويس ذلك الغول العمراني المرعب يهدد بأنه قبل حلول عام 2050 سوف تمتد القاهرة التي يطلق عليها الكبري لتشغل أكثر من منتصف المسافة إلي الإسكندرية غربا والإسماعيلية والسويس شرقا وستبتلع مدنا أخري مثل بنها شمالا والفيوم جنوبا!!!.
إذا واقع فكر المدن الجديدة -وضمنها المدينة الحكومية أو مجمع الوزارات- التي يبشر بها المهندس إبراهيم محلب ليس واقعا ورديا كما يتصوره غير العالمين ببواطن الأمور, وإذا لم تتوفر الإرادة السياسية الصارمة لتطبيقه والإصرار الإداري والتشريعي علي حمايته لن نحصد منه إلا مزيدا من التخبط واستفحال المشاكل وتحول الأحلام الطموحة إلي كوابيس وكوارث تخرج عن حدود السيطرة.
هذا من الناحية التخطيطية أما إذا تطرقنا إلي مستلزمات تأسيس مدينة للوزارات والمصالح الحكومية فلا يعتقد أحد أنها تنحصر في مباني مكاتب وإدارات فقط بل إنها تحتاج تخطيطا شاملا لمدينة سكنية خدمية تكون الوزارات النواة في مركزها وتمتد حولها مناطق لسكني كافة العاملين فيها من الوزير إلي الغفير مع كل احتياجاتهم من الخدمات التعليمية والعلاجية والتجارية والترفيهية والأمنية والرياضية وغيرها… هذا إذا أردنا أن نسحب بها ذلك العبء الثقيل من القاهرة ولا نكرر أخطاء الماضي فيها… أما ما حدث بالفعل ومازال يحدث ويتراكم من خطايا المدن الجديدة وعلاقاتها غير الشرعية بالقاهرة فلست أدري كيف ومتي سنتوب عنها!!!.