إن أهمية تنشئة البراعم الصغيرة وغرس قيم المعرفة والاخلاق والفضيلة فيها الى أن تنضج وتسلم للمجتمع عناصر عفية فاعلة هى بالقطع أسمى رسالة على الاطلاق. وحسنا تعهد الاب نبيل غبريال بهذه الرسالة. إن من يسمع من أبنائه الذين شبوا فى ظل أبوته كيف كانوا يهابوه ويخشون الوقوع تحت صولجانه صغارا, وكيف أحبوه واعترفوا بأفضاله عليهم كبارا, ليخال أنه أمام ملحمة أشبه بمدرسة المشاغبين, ليس فى جانبها الهزلى الساخر انما فى رسالتها السامية فى تخريج أجيال يفخر بها هذا الوطن. وحقا ذلك ما دأب عليه راحلنا الحبيب سائرا على درب من سبقوه وتاركا نموذجا يحتذى لمن يتبعوه.
يوسف سيدهم
شهادات حية:
كلمة تأبين الأب نبيل غبريال اليسوعيّ في قدّاس جنّازه، 19/06/2014
للأب فاضل سيداروس اليسوعيّ – رفيق الأب نبيل غبريال في كتلميذ بالدراسة وفي الرهبنة
صاحب الغبطة، أصحاب النيافة، الآباء الأجلاّء، حضرات القساوسة الأعزّاء، أحبّائي في الربّ،
عيوننا تذرف دموع الحزن ونحن نودِّع إنساناً عظيماً، أخاً وصديقاً ورفيقاً. والذي أمامكم ويخاطبكم قد عاش معه سنين طويلة، منذ سنوات الحضانة في مدرسة العائلة المقدّسة، والاحتفال بالمناولة الأولى في صرح هذه الكنيسة التي تجمعنا، وسني الدراسة في أحضان هذه المدرسة العريقة، إلى الالتقاء في أحضان الرهبانيّة اليسوعيّة.
كان الأب نبيل طالباً في هذه المدرسة منذ نعومة أظافره، وتخرّج فيها وقد اشترك في مختلف أنشطتها الثقافيّة والروحيّة والاجتماعيّة التي بذرت فيه بذور الدعوة الرهبانيّة. وفي داخل الحياة الرهبانيّة تدرّج في الخدمة بالمدرسة إذ كان أثناء دروسه مشرفاً مدّة سنتين، ثمّ بعد رسامته ناظراً مدّة تجاوزت العشر سنوات، فرئيساً مدّة عشرين عاماً. وفي أثناء ذلك، خدم أميناً عامًّا للمدارس الكاثوليكيّة في مصر أكثر من خمسة وعشرين سنة على فترات مختلفة. وفي السنين الأخيرة كان مديراً لهيئة كاريتاس مدّة تسع سنوات. في سيرته الخدميّة، هناك وجهان متكاملان من شخصيّته. هناك المربّي في العالم التربويّ الذي اكتسب خبرة تربويّة نادرة بفضل احتكاكه بالطلبة – وقد أولى ذلك الجانبَ من عمله الإداريّ بالغ الأهمِّيّة – وبالمدرِّسين والإداريّين والهيئات الحكوميّة، حتّى إنّه ساهم في العمليّة التربويّة بفضل مداخلاته التربويّة المتعدِّدة في الإذاعة والتليفزيون ودواوين وزارة التعليم، وبفضل اشتراكه في مؤتمرات وطنيّة وإقليميّة ودُوليّة. ومن بين هواجسه التربويّة التي صبغها صبغة شخصيّة، تركيزه على الإبداع، إبداع الطلبة والأساتذة، وذلك للنهوض بمصر أبيّة؛ فضلاً عن المواطنة في بلد التعايش الدينيّ والطائفيّ؛ علاوة على الرجاء عند احتفاليّة يوبيل المائة والخمسة والعشرين عامًا على تأسيس مدرسة العائلة المقدّسة، وقد حدّد هذا الشِّعار المُعبِّر عن طموحات جيل من الشباب: “اِزرع الرجاء تحصد الحياة”…
بالإضافة إلى ذلك المشروع التربويّ العملاق، كان الأب نبيل مُربِّياً اجتماعيًّا عظيماً. فمنذ أن كان مشرفاً في المدرسة، كان ينشِّط مع تلامذته خدمات ومعسكرات والتزامات اجتماعيّة ووطنيّة، وقد شجّع على هذا البُعد طوال سني نظارته ورئاسته المدرسة. وما عضّد ذلك الجانبَ من شخصيّته التربويّة، خدمته في هيئة كاريتاس التنمويّة التي أكسبته الإحساس بالفقير مادِّيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا.
أودُّ أن أُظهر بعض ملامح شخصيّة الأب نبيل الروحيّة. عندما فكّرتً في الآية التي تعبِّر عنها، أتت إلى ذهني كلمة بولس في نهاية حياته الرسوليّة: “جاهدتُ جهاداً حسناً” (1 طيموثاوس 4/7). كان الأب نبيل بالفعل مُثابراً في التزاماته، مُقاوماً الصِّعاب، مُواجهاً التحدِّيات، بعزيمة هادئة واثقة. كان ذلك المُناضل يعمل في الصمت، وكانت علاقاته تتّسم بمسافة بينه وبين الآخرين، حتّى إنّها كانت تبدو لبعض الناس أنّها تتّسم بالجفاء. غير أنّ الذين كانوا قريبين منه كانوا يعلمون أنّه كان يصمت ولكنّه كان يسمع ويتفاعل مع الذين يتكلّمون، فكان صمته صمتاً إيجابيًّا. أضف إلى ذلك أنّه كان ذا حسٍّ مرهف، بالرغم من المظاهر. ففي احتفاله بيوبيله الرهبانيِّ الذهبيّ، منذ ثلاث سنوات، فاجأنا أثناء إلقائه عظته، أنّه توقّف وأذرف دمعاً عند ذكر دعوته الرهبانيّة بفضل ما زرعه فيه أهلُه من قيم ومبادئ. هذا هو الأب نبيل، أكثر منه الوجه الحازم في الإدارة.
وكان جهاده في خدمته مبنيًّا على أساس روحيٍّ عميق، تعبِّر عنه خير تعبير كلمة بولس عندما ألقى نظرة على خدمته: “نعمة الله عليّ لم تذهب سُدًى. […] ما أنا جاهدتُ، بل نعمة الله التي هي معي” (1 قورينتُس 15/10). كان بالفعل نعمة الله تعمل فيه وفي رسالته وعلاقاته، وإن لم يظهر ذلك. فكان رجل صلاة بتمام معنى الكلمة. كنّا نراه دائماً طوال سنين خدمته يُصلّي القدّاس اليوميُّ باكراً، مُستقياً منه كلّ ما سيقوم به في يومه، أميناُ في ذلك على روحانيّة القدّيس إغناطيوس مؤسِّس الرهبانية اليسوعيّة: “البحث عنه واكتشافه في كلِّ شيء”. في كلِّ شيء، لا في الصلاة فقط، في كلِّ عمل وخدمة وعلاقة، مكتشفاً عمل الله المخفيِّ في كلِّ شخص، ساعياً جاهداً في سبيل “مجد الله الأعظم”، حسبما تعبِّر عنه الروحانيّة الإغناطيّة، ذلك المجد الذي يظهر في أتفه الأمور، كما في أعظمها. ذلك البُعد الروحيّ، أكاد أقول التصوُّفيّ، كان يحرّكه من الداخل ويدفعه للخدمة. وقد ظهر هذا التطلُّب الروحيُّ في رئاسته الجماعة الرهبانيّة في الفجّالة، إذ عوّدنا في بداية الاجتماع الجماعيّ الأسبوعيّ أن نستمع إلى نصٍّ روحيٍّ يُغذّينا ويُروينا ويُغنينا.
والآن نحن أمام سرِّ الموت. الموت الذي يأتي كالسارق، وأتى إليه سارقاً بالفعل، إذ لم يتوقّع أحد أنّ نهاية مسيرته الأرضيّة قد حانت. لذلك أوصانا السيِّد المسيح: “كونوا مُستعدّين. ففي الساعة التي لا تتوقّعونها، يأتي ابن الإنسان” (لو 12/40). لقد أتى فعلاً يسوع المسيح وأخذه ليضمّه إلى رِفاقه السماويّين. ففي الرياضات الروحيّة السنويّة يتأمّل رفيق يسوع كلمته: “معي في الكدّ، معي في المجد”. عاش الأب نبيل اثنتين وسبعين سنة في الكدِّ مع يسوع المسيح، والآن يحيا معه المجد والنور والفرح. مات الأب نبيل كما عاش: خادماً أميناً على القليل، والآن مُشتركاً في ميراث الملكوت في أحضان القدّيسين: “أحسنتَ، أيُّها الخادم الصالح الأمين. […] اُدخل نعيم سيِّدك” (متّى 25/22). عاش الأب نبيل صامتاً، والآن يحيا الصمت الكبير – وسندفنه بعد لحظات في قبر الرهبنة بالمطريّة مع مَن سبقوه من اليسوعيّين -. ولكنّ حبّة الحنطة التي وقعت في الأرض وماتت تُثمر ثمراً وافراً (يو 12/24) في الأجيال التي ربّاها وزرع فيها الرجاء وبنى فيها الإنسانيّة التي تمجِّد الله أعظم تمجيد. آمين.
وفيق وديع – مدرس بمدرسة العائلة المقدسة ومن العاملين بالأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية
شهادة حقّ
أمام هذا الفراق الكبير، لايسعني إلاّ أن أقول شهادة حقٍّ لأبي وأستاذي، لا كرفيق له في الرهبنة اليسوعيّة. فأنا لا ألبس الثوب الرهبانيّ، ولكنّي إغناطيٌّ بالقلب والتكوين. فقد عملتُ معه مدّة أربع سنوات في الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة، في نهاية التسعينيّات، عندما قمنا بإعادة تأسيس وهيكلة مجالس إدارة الأمانة العامّة، وعملت أيضا تحت إدارته ما يقرب من عشرين عاماً في مدرسة العائلة المقدّسة بالفجالة.
فشهادتي شهادة حقٍّ على ثلاث مستويات: الأوّل على مستوى شخصي، والثاني على مستوى المدرسة، والثالث على مستوى مصر عامّة والأمانة العامّة خاصّة.
على المستوى الشخصيّ، كان الأب / نبيل يمثِّل في نظري نبعاً ومصدراً للإشعاع. فوجوده كفيل بأنّك تعطي كلّ ما عندك بلا حساب. كم من الإبداع والابتكار لا حد لهما! لا أنسى عندما عرضتُ عليه عام 2002 مشروع الأنشطة الفنِّيّة واليدويّة، فكان ردُّه الواضح والمحدّد بلا تردُّد : Carte blanche – تفويض كامل.. ما هذه الثقة وهذه المحبّة! الثقة والمحبّة تدفعان إلى الأمام، فهما نبع للإبداع والابتكار.
وعندما قمنا بعرض الأعمال الفنِّيّة واليدويّة في آخر العام، بحضور بعض الوزراء والمسئولين من وزارة التربية والتعليم، تمّ تعميم هذه التجربة من السنة التالية على مستوى جميع مدارس الجمهوريّة.
لم أكن موظّفاً لدى الأب / نبيل، فلم أعمل لديه، لا، بل كنتُ أعمل معه. وكان حجّة في الإدارة: ففي إحدى المرّات، عرضتُ عليه شهادة لطالب بأنّه مقيَّد في المدرسة، وكان ردّه لي: “مَنْ أنت حتّى تصدر شهادة، فهي إفادة وليست شهادة”. وكثير من المواقف والمساندة للعلمانيّين، فهم السند والقوّة في مفهوم الكنيسة الكاثوليكيّة.
أمّا على مستوى المدرسة، فأستطيع القول بأنّ فترة إدارة الأب / نبيل لها، كنّا نشعر جميعاً بتكوين تلقائيٍّ لما يُسمّى: “الجماعة التربويّة ” (Communauté éducative)، المُكوَّنة من المربّين والإداريّين والمشرفين، فكلُّنا بحّارة في مركب واحد. فكان ينمّي كلّ مَنْ حوله، دون أن يُهمل أحداً، اقتناعاً منه بأنّ نموّ الجماعة التربويّة له أثر فعّال على نموِّ كلِّ شخص، ما يعود أخيراً إلى نموِّ المدرسة كلِّها وتقدُّمها وتفوُّقها. سؤاله الأخير لي في مناسبتين متتاليتين: كم من خرّيجي المدرسة يقومون الآن بالتدريس في المدرسة؟ فكان مهتمًّا بمستوى المدرسة حتّى آخر لحظة في حياته.
وأمّا على مستوى مصر عامّة والأمانة العامّة خاصّة: فهو كالنسر الذي يُحلِّق، فيرى ما لا يراه الآخرون. فالأمانة العامّة تضمُّ حوالي 170 مدرسة كاثوليكيّة من مختلف الرهبانيّات والروحانيّات والإيبارشيّات والاتجاهات. فهذا التنوُّع يعبِّر عن غنى الكنيسة الكاثوليكيّة. كما يرجع الفضل إلى الأب /نبيل أنّ الأمانة تصبح لأوّل مرّة في تاريخها عضواً في لجنة التعليم الخاصّ بالوزارة، تدافع عن حقوقها وتعبِّر عن رؤيتها ورسالتها أمام الكمِّ الهائل من المدارس الاستثماريّة والخاصّة.
وعلى مستوى مصر أيضا: مًنْ ينسى المهرجانات المختلفة التي نظّمتها الأمانة العامّة للتعبير عن انتمائها إلى مصر، ودورها الرائد والمُهمِّ في دفع عجلة التنوير والتقدُّم، ومن أبرزها: “العالم بين ايدينا، تعال نُشكِّله”. وكان يحلم أن تُطبع خريطة مصر على شكل Puzzle ليتعلّم التلاميذ الانتماء إلى بلدهم. وكلُّ ذلك، لا لمجده الشخصيّ، بل لمجد الله الأعظم.
أحتاج إلى صفحات لأدوِّن الأحداث المختلفة والمواقف العديدة التي تعلّمنا فيها من الأب/ نبيل مختلف الفضائل والقيم التربويّة والروحية التي ستظلُّ محفورة في وجداننا مدى الأجيال.
الخسارة فادحة، والفراق أليم. نطلب إلى ربّ المجد تعزية للآباء اليسوعيّين ولجميع تلاميذه في كلِّ أنحاء العالم.
أسعد عيد – مدير المدرسة الإبتدائية بالقبيسي السابق
الأب نبيل غبريال كما عرفته كان الشخص الحاضر في كل وقت، اعتبرته أخ وعملت معه في هذا العمل التربوي بالمدرسة طوال مدة خدمتي بها..
الحياة المدرسية لها جوانبها المتعددة: التربوي، الإداري و العلاقي. ويستوجب من المسئول اليقظة المستمرة لأي تغير في أى من تلك الجوانب، وبالتالي الرد المناسب وفي التوقيت المناسب. لا يمكن أن نعيش في الماضي أو في الخيال بل يجب أن نعيش في الواقع، وقد كان الأب نبيل هذا الرجل..
خريجو المدرسة وزملائه وكذلك المربين والعاملين وأولياء الأمور والعاملون بالتربية والتعليم، كل من سألتهم عنه إتفقوا عنه في هذا الرأي.
لم نكن نشعر معه بمرور الزمن.. شجعنا على تعلم الكثير.. علمنا كيف نكون الشخص المناسب في المكان المناسب..
جون كارلو ريسبولي – خريج مدرسة العائلة المقدسة (1981)
إن وجدت كلمة لوصف الأب نبيل غبريال.. فهي الاستقامة.
عرف كيف يجمع بين الحياة الروحية ومسئولياته كمدير لمدرسة العائلة المقدسة ورسالته التربوية في تكوين أجيال تدين له بما وصلوا إليه من نجاح في حياتهم.
كان غيورا على المؤسسات التربوية والإنسانية المسيحية والكاثوليكية بمصر.
كان الأب نبيل غبريال رجل قناعات وعمل.. قد لا تتفق معه في فكر أو قرار ولكن لم يختلف أحد على أنه كان ثابت في قراراته ومثابرا في تحقيقها لا يكترث لأي عقبات أو آلام جسدية قد تعوقه عن الاستمرار.. كان مثالا حي لجوهر الرهبانية اليسوعية التي كان ينتمي إليها..
لنبقي ذكراه حية.. بإتخاذ قراراتنا وإن كانت صعبة، ونثابر على تحقيقها من أجل خدمة أفضل للآخر..
داليا فيكتور – أم طالب بالمدرسة:
لم اعرف الأب نبيل المربي الفاضل الذي عايشه الطلبة و العاملون بمدرسة العائلة المقدسة. و لكني عرفت و ارتبط بالأب نبيل الكاهن و الإنسان الذي طالما صاحبنا في الصلاة و ساعدنا على التأمل من خلال عظاته في قداس الأحد او على مدار أسبوع الآلام مختتما هذا المشوار الدسم بروحانياته و الذي يتكرر كل سنة بقداس مبهج لعيد القيامة.
كيف أنسى الأب نبيل و استقباله الحافل الحار لابني الصغير كل أسبوع بعد قداس الأحد؟ كان دائم السؤال على أحواله و على تقدمه في الدراسة و القامة وكان حاضر بنصائحه المحبة الصارمة الحنونة.
حزنت و حزن ابني و كل أفراد أسرتي لرحيل الأب نبيل غبريال و لكن فرحنا لأننا عرفنا و عايشنا هذا الرجل العظيم.
وداعا أيها الفارس القوي المحب المستقيم الحنون، الانسان، أبدا لن ننساك.