من الأمور المُلفتة للانتباه ، أنْ يتخلق تيار ثقافى يُدافع عن خصوصيتنا الثقافية وعن هويتنا القومية ، أى تيار (القومية المصرية) فى ذات الوقت الذى تخلــّـق فيه التيار العالمانى ، فكانا كالتوأم الذى تخلــّـق ووُلد ونشأ وشبّ فى وقت واحد .كما أنّ المؤرخ المُنصف يُلاحظ خفوت صوتهما فى وقت واحد أيضًا ، بعد يوليو1952
رغم أنّ رفاعة الطهطاوى (1801- 1873) كان يعتمد المرجعية الدينية فى كتاباته ، فإنّ كثيرين فى الثقافة المصرية السائدة البائسة يعتبرونه أحد ((رموز التنوير))ورأى آخرون أنه أول مفكر ((دعا للقومية المصرية)) وذكر مؤرخون عديديون أنّ الجناح الغالب داخل الثورة العرابية كان يرفع شعار ((مصر للمصريين)) وفى هذا الشأن كتب لويس عوض ((لماذا كان تفسير الأفغانى لأسباب الثورة العرابية تفسيرًا زريًا ؟ هل لأنّ الثورة العرابية لم ترفع شعار التبعية العثمانية ورفعت شعار(مصر للمصريين) ؟ رغم أنّ بعض أجنحتها الساذجة كانت تؤمل خيرًا فىمؤازرة تركيا لها)) وكتب أنّ رسالة الأفغانى فى مجلة (العروة الوثقى) هى نسف الشعور القومى وتدعيم الشعورالدينى كأساس لمقاومة الاستعمار. ولم يكن هناك مُستفيد مباشر من هذا التيار يومئذ إلاّ الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد . أما المُستفيد بطريق غير مباشر، فقد كان الاستعمار فى الخارج وأصحاب الحكم المُطلق فى الداخل)) فهل كان لويس عوض متجنيًا على جمال الدينالإيرانى الشهير بالأفغانى كما كتب كل الأصوليين فى مصر؟ ولنستمع إلى صوت مغاير عن الأصوليين ، هو صوت د. هالة مصطفى التى كتبت ((لم تكن أفكار الأفغانى حول (الوطنية) بعيدة هى الأخرى عن هذا الجدل ، فبينما يراه طاهر عبد الحكيم متخلصًا من العصبية الدينية والقومية ، يعتقد البرت حورانى فى كتابه (الفكر العربى فىعصر النهضة) أنه كان على العكس مدافعًا عن العصبية الدينية ، حيث رفض الاعتقاد الشائع فى أوروبا بأنّالتعصب القومى خير بحد ذاته ويؤدى إلى التقدم ، وأنّالتعصب الدينى هو أبدًا تعصب أعمى يحول دون التقدم))
إنّ الطريق لم يكن ممهدًا ولا سلسًا أمام تيار القومية المصرية. كما حدث مع التيار الليبرالى وذلك بسبب الفكرالأصولى الذى بدأه الأفغانى والذى كتب كثيرًا محاولا نسف الشعور القومى من شعبنا وغيره من الشعوب ، فهو يطالب المسلمين بأنْ ((يعتصموا بحبال الرابطة الدينية التى هى أحكم رابطة اجتمع فيها التركى بالعربى والفارسىبالهندى والمصرى بالمغربى ، وقامتْ لهم مقام الرابطة الجنسية)) (العروة الوثقى 24/8/1884) أما أخطر ما روّج له الأفغانى فهو إقناع الشعوب بقبول الاحتلال الأجنبىوعدم مقاومة الاستعمار تأسيسًا على قاعدة (الرابطة الدينية) فكتب ((هذا ما أرشدنا إليه سير المسلمين من يوم نشأة دينهم إلى الآن ، لا يتقـيّدون برابطة الشعوب وعصبيات الأجناس ، وإنما ينظرون إلى جامعة الدين ، لهذا نرى المغربى لا ينفر من سلطة التركى ، والفارسى يقبل سيادة العربى ، والهندى يذعن لرياسة الأفغانى ، لا اشمئزاز عند أحد منهم ولا انقباض)) (العروة الوثقى28/8/1884)
فهل هناك تزوير لتاريخ الشعوب أكثر من ذلك ؟ وهل يقبل الشعب السعودى أو اليمنى إلخ أنّ يحكمهم أى حاكمأجنبى لمجرد أنه مسلم؟ وأليس من حق كل مصرى ما زالتْ مصر تنبض فى عروقه أنْ يسأل هذا السؤال : ماذا يحدث لو أنّ الأصوليين المُعاصرين لنا الذين يُشايعون الأفغانىويُروّجون لأفكاره ، فرضوا على المسئولين عن التعليم تدريس كتابات الأفغانى على طلبة المدارس والجامعات ؟هل هناك نتيجة أخرى غير ترسيخ معنى (احتقار الوطن) مقابل الاعتزاز ب (الرابطة الدينية) ؟ والسؤال بصيغة أخرى : لماذا تـُصر الثقافة المصرية السائدة البائسة والمُنحطة على تجاهل والتعتيم على كتابات كل من دافع عن القومية المصرية؟ لماذا لا يقرأ طلاب المدارس والجامعات ما كتبه أحمد لطفى السيد ((نشأتُ فى أسرة مصرية صميمة لا تعرف إلاّ الوطن المصرى . ولا تعتز إلاّ بالمصرية. ولاتنتمى إلاّ إلى مصر. ذلك البلد الطيب الذى نشأ التمدن فيه منذ أقدم العصور. وله من الثروة الطبيعية والشرف القديم ما يكفل له الرقى والمجد)) (قصة حياتى- ص3) وكتب ((إننا نحن المصريين نحب بلادنا ولا نقبل مطلقا أنْ ننتسب إلى وطن غير مصر، مهما كانت أصولنا حجازية أو سورية.. إلخ)) (الجريدة 9يناير 1913) وكتب ((كنتُ منذ زمن طويل أنادى بأنّ مصر للمصريين. وأنّ المصرى هوالذى لا يعرف له وطنـًا آخر غير مصر. أما الذى له وطنان : يُـقيم فى مصر ويتخذ له وطنـًا آخر على سبيل الاحتياط ، فبعيد عليه أنْ يكون مصريًا بمعنى الكلمة)) (قصة حياتى107) وفى رده على الأصوليين أمثال الأفغاتى كتب ((أريد أنْ يتحمّـل كل قاطن فى مصر من الواجبات ما يتحمّـلهالمصريون لتحقيق القومية المصرية. فقد كان من السلف من يقول بأنّ أرض الإسلام وطن لكل المسلمين ، وتلك قاعدة استعمارية ، تنتفع بها كل أمة مستعمرة ، تطمع فى توسيع أملاكها ونشر نفوذها كل يوم فيما حواليها من البلاد ، تلك قاعدة تتمشى بغاية السهولة مع العنصر القوى الذى يفتح البلاد باسم الدين . إنّ مصريتنا تقضى علينا أنْ يكون وطننا هو قبلتنا ، وأنْ نـُكرّم أنفسنا ونـُكرّم وطننا ، فلا ننتسب إلى وطن غيره ونخصه بخيرنا)) (قصة حياتى108، 109)
وفى رده على مقولة (الرابطة الدينية) كتب ((الإسلام ليس لمسلم بوطن ، فوحدة الاعتقاد الدينى ليست كافية لإقامة وحدة التضامن الوطنى)) (الجريدة 10/3/1907) وفى تعميقه لمعنى القومية كتب ((إنّ أول معنى للقومية هو تحديد الوطنية المصرية. والاحتفاظ بها والغيرة عليها ، غيرة التركى على وطنه والإنجليزى على قوميته)) (الجريدة 2/9/1912) وفى ذات المقال أوضح ضرورة الاعتماد على الذات ، وردّ على أفكار البعض أمثال مصطفى كامل الذىكان يرى ضرورة الارتباط بالدولة العلية وطالب ببقاء السلطة بين عابدين/ ويلدز قوية متينة (مصطفى كامل- جريدة اللواء- 8/1/1900) فكتب لطفى السيد ((يجب ألاّنقع مرة ثانية فى حبائل ذلك الوهم القديم ، إذْ كان يقال مرة أنّ فرنسا ستـُحرر بلادنا ، ومرة أنّ الدولة العليةستـُسفك دماء أبطالها لتـُخرج الإنجليز من بلادنا. إنّ ما ينفع مصر هو ألاّ تنى لحظة واحدة عن العمل لذاتها وعن إثبات شخصيتها وقوميتها)) وردًا على الذين يخلطون بين الدين والقومية كتب ((إنّ القول بأنّ مصر ليست وطنـًا للمصريين فقط ، بل هى وطن لكل مسلم يحل على أراضيها ، سواء أكان عثمانيًا أم إنجليزيًا أم فرنسيًا ، وعلى ذلك تكون القومية المصرية أو الجنسية المصرية منعدمة ، ومتى انعدمتْ القومية فكيف نفهم الاستقلال)) (الجريدة 1/9/1912)
وكما خاض التيار الليبرالى الصراع فى سبيل إرساء دعائم دولة عصرية ، كذلك خاض تيار القومية المصرية الصراع لترسيخ مفهوم الوطن . وكانت الأصولية الإسلاميةهى العدو المُـشترك للتياريْن خصوصًا بعد إنشاء جماعة الإخوان المسلمين عام 1927، فهذا هو إمام الأصوليين فىتلك الفترة (حسن البنا) يقول ((إننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وليس بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية)) ولذلك حرّض على غزو الشعوب واحتلال أراضيها بحجة (سيادة الإسلام) فقال يُخاطب أتباعه ((إنّ الدور عليكم فى قيادة الأمم وسيادة الشعوب . وأنّ الدين الإسلامى يوجّه المسلمين إلى أفضل استعمار وأبرك فتح ويُـقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا)) (طارق البشرى- الحركة السياسية فى مصر- ص72) وبعد أنْ اشتد الصراع بين التيار الوطنىوالأصوليين الإسلاميين ، خاصة بعد ثورة شعبنا فى شهر برمهات/ مارس 1919، سارعتْ بريطانيا وساعدتْ وباركتْقيام جماعة الإخوان المسلمين . وقد اعترف حسن البنا فى(مذكرات الدعوة والداعية) أنّ شركة القنال الإنجليزية تبرّعتْ بمبلغ خمسمائة جنيه عند بناء أحد المساجد بالإسماعيلية.
كانت مقاومة التيار الوطنى تأخذ بُعدًا ثقافيًا يحفر عميقــًا فى سبيل ترسيخ معنى الوطن . ففى أعقاب ثورة 19 كان واصف غالى يُردّد دائمًا فى خطبه ((لم يعد للمصريين قاطبة إلاّ إيمان واحد وعقيدة واحدة ودين واحد هو دين الوطنية)) (طارق البشرى- المسلمون والأقباط فىإطار الجماعة الوطنية- هيئة الكتاب المصرية- عام 80- ص140) أما ميخائيل فانوس فذكر فى افتتاح المؤتمرالقبطى يوم 6مارس1911 ((تختلف مصر عن باقى الأمم المُـتكوّنة من عناصر مختلفة بأن هذه شعوبها من أصول متباعدة وبمعتقدات وعوائد متباينة. أما مصر فشعب أصله واحد من سلسلة واحدة من آلاف السنين ، لم يمتزج بهمالأجنبى إلاّ بجزء ابتلع فى المجموع . زد على ذلك أنّ عادات القوم هى للواحد كما هى للآخر. والقوم هم المسلمون والأقباط . وهم من الإسكندرية حتى أسوان يُـشكلون مجموعًا واحدًا لا يُميزهم إلا المعتقد . ومن الظلم تسميتهم بأنهم من عنصريْن ، فليستْ العقائد هى التى عليها الأساس بل الجنسية)) (المصدر السابق- من 80- 82)
إنّ الروح القومية ضمّتْ فى أعطافها حتى المشايخ ، فوقف الشيخ محمد عبد المطلب فى جمع غفير من المسلمين يحتفلون بعيد رأس السنة القبطية وأنشد :
كلانا على دين هو به مؤمن ** ولكن خذلان البلاد هو الكفر
إلى هذا الحد يتغلغل حب الوطن فى وجدان وعقل هذا الشيخ المُعمّم فيعتبر أنّ (الكفر) هو خذلان البلاد وليس اختلاف المعتقد الدينى كما يرى الأصوليون . أما الشاعر أحمد شوقى الذى رماه البعض بعد يوليو 52بأنه (شاعر القصر) للتحقير من شأنه فإنّ (الوطن) عنده هو الدين الذى يُجابه فى سبيله كل المخاطر، بل إنه يُـولى وجهه قِبلة الوطن قبل أى مكان آخر فكتب :
ويا وطنى لقيتك بعد يـــــأسٍ ** كأنى قد لقيتُ بك الشبابا
ولو أنى دعيتُ لكنت دينــــى ** عليه أقابلالحتم المُجابـا
أدير إليك قبل البيت وجهــــى ** إذا فهتُالشهادة والمتابـا
وكتب أ. طارق البشرى أنّ محمد حسين رغم نظرته المتشيعة للجامعة الإسلامية ، علــّـق على الإنتاج الأدبىلثورة 19 قائلا ((تحولتْ الثورة إلى حركة قومية خالصة وخـَـفـَـتَ صوت الدين . ولم ينج من ذلك شاعر كشوقى) وكتب زكى مبارك ((رعى الله العهد الذى كانت فيه موسيقانا مصر للمصريين)) (المصدر السابق – 137، 138)
أما عميد الثقافة المصرية (طه حسين) فكتب ((من المُحقق أنّ تطور الحياة الإنسانية قضى منذ عهد بعيد بأنّ وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان للوحدة السياسية ولا قوامًا لتكوين الدولة)) وفى ذات المقال أضاف ((القومية المصرية القديمة لم تنسها مصر فى يوم من الأيام . والتاريخ يحدثنا بأنها قاومتْ الفرس أشد المقاومة. وبأنها لم تطمئنللمقدونيين حتى فنوا فيها وأصبحوا من أبنائها . والتاريخ يحدثنا كذلك بأنها خضعتْ لسلطان الإمبراطورية الرومانيةالغربية والشرقية على كـُره مستمر ومقاومة متصلة ، فاضطر القياصرة إلى أخذها بالعنف . والتاريخ يحدثنا كذلك أنّ السلطان العربى بعد الفتح لم يبرأ من السخط والمقاومة والثورة)) (جريدة السياسة 31/12/23) وفى عام 1933 كتب طه حسين مقالا فى صحيفة (كوكب الشرق)ذكر فيه أنّ ((المصريين خضعوا لضروب من البغض وألوان من العدوان جاءتهم من شعوب شتى من بينهم العرب)) فهاجمه الأصوليون فى ذاك الوقت . ثم تكرّر الهجوم عليهأكثر من مرة واشتد الهجوم بعد صدور كتابه (مستقبل الثقافة فى مصر) عام 38. ورصد د. مصطفى عبد الغنى هذه المعركة فكتب أنّ الطرف الآخر فيها كان ساطعالحصرى حيث بدا رأى طه حسين واضحًا فى (القومية العربية) أكثر من ذى قبل ، إذْ عندما سأله أحد الصحفيين عن رأيه قال إنه لا مانع من التعاون الاقتصادى والثقافىبين البلاد العربية ((أما إذا كنت ترمى إلى أنّ مصر مستعدة للمساهمة فى الوحدة العربية أو القومية العربية ، فأنت على خطأ . هل تـُريدون أنْ تتحقق الوحدة العربية ؟فعلى أى أساس علمى تنادون بها ؟ تعالوا معى نستعرض الروابط التى تصل مصر بالأقطار الأخرى : فأولها اللغة وثانيتها الدين وثالثتها السكان ورابعتها شكل بعض التقاليد الموروثة من حقبات تاريخية متشابهة. فأما الدين فلا يصلح لأنْ يكون أساسًا ، وإلاّ أصبحتْ الوحدة المزعومة وحدة إسلامية لا وحدة قومية. وأصبحنا من جهة نـُدخل فيها شعوبًا غير عربية. وكذلك أصل السكان فهو غير كافٍلخلق الوحدة القومية العربية. فإنّ الأغلبية الساحقة من المصريين لا تمت بصلة إلى الدم العربى ، بل تتصل مباشرة بالمصريين القدماء . ومصر اليوم هى مصر بالأمس . أىمصر الفراعنة. المصرى فرعونى قبل أنْ يكون عربيًا. ولا تطلبوا من مصر أنْ تـُغيّر فرعونيتها. مصر لن تدخل فىوحدة عربية ولا اتحاد عربى ، سواء كانت مساوية فيه للأمم العربية الأخرى أو مسيطرة عليها . وسواء كانت عاصمة هذه الوحدة القاهرة أو دمشق أو بغداد)) (د. مصطفى عبد الغنى- طه حسين والسلطة فى مصر- هيئة الكتاب المصرية- من ص 210- 212. أما الحديث الصحفى فقد أجرته مع طه حسين مجلة (المجلة الجديدة) ديسمبر38)