عَلَى مَرْصَدِي أَقِفُ، وَعَلَى الْحِصْنِ أَنْتَصِبُ، وَأُرَاقِبُ لأَرَى مَاذَا يَقُولُ لِي، وَمَاذَا أُجِيبُ عَنْ شَكْوَايَ. فَأَجَابَنِي الرَّبُّ وَقَالَ: «اكْتُبِ الرُّؤْيَا وَانْقُشْهَا عَلَى الأَلْوَاحِ لِكَيْ يَرْكُضَ قَارِئُهَا، لأَنَّ الرُّؤْيَا بَعْدُ إِلَى الْمِيعَادِ، وَفِي النِّهَايَةِ تَتَكَلَّمُ وَلاَ تَكْذِبُ. إِنْ تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَانًا وَلاَ تَتَأَخَّرُ«هُوَذَا مُنْتَفِخَةٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ نَفْسُهُ فِيهِ. وَالْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا.. (حب2: 1-4) .
انتشر في عصر حبقوق الفساد ، وأخذ يتفشى وينتشر كالوباء في ربوع البلاد ، كان الشر يمشي في الشوارع شامخ الرأس ، ويُخرج لسانه للدنيا كلها بدون خجل أو حياء ، وبدون اعتبار لأية قيم أو مبادئ أو أعراف، فصعد حبقوق إلى مرصده وإلى حصنه (والمرصد كبرج للمراقبة) وأخذ حبقوق يتحدث مع الله ويعرض شكواه ، والدارس لسفر حبقوق يجد أنه عبارة عن تساؤلات النبي وإجابات الله .
ولعل أكبر علامة استفهام سجلها حبقوق في مناجاته مع إلهه كانت في سؤاله الذي يشغل بال كل الأجيال “عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا الشَّرَّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَى الْجَوْرِ، فَلِمَ تَنْظُرُ إِلَى النَّاهِبِينَ، وَتَصْمُتُ حِينَ يَبْلَعُ الشِّرِّيرُ مَنْ هُوَ أَبَرُّ مِنْهُ؟ (حب1: 13)
ولعله في هذا يشارك آساف حين صرخ في لوعة وأسى قائلاً ” لَوْلاَ قَلِيلٌ لَزَلِقَتْ خَطَوَاتِي. لأَنِّي غِرْتُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ، إِذْ رَأَيْتُ سَلاَمَةَ الأَشْرَارِ. (مز73: 2، 3).
وهذا أيضاً ما يتفق مع أيوب في سؤاله الذي تردد صداه عبر كل العصور وهو ” لِمَاذَا تَحْيَا الأَشْرَارُ وَيَشِيخُونَ، نَعَمْ وَيَتَجَبَّرُونَ قُوَّةً؟ (ايوب21: 7) .
فلقد كان في البلاد أغلبية شريرة فاسدة ، أحاطت بالأقلية التقية وسحقتها تحت أقدام الظلم والقهر والعنف وتفشت الرشوة ، وأعوج القضاء . ورأى حبقوق من مرصده الرؤيا والتي تتلخص في حتمية التأديب الإلهي لشعب الله على خطاياه، فمَنْ يحبه الرب يؤدبه ، وسيكون التأديب بواسطة شرير لا بار فمكتوب فَهأَنََذَا مُقِيمٌ الْكَلْدَانِيِّينَ الأُمَّةَ الْمُرَّةَ الْقَاحِمَةَ السَّالِكَةَ فِي رِحَابِ الأَرْضِ لِتَمْلِكَ مَسَاكِنَ لَيْسَتْ لَهَا. هِيَ هَائِلَةٌ وَمَخُوفَةٌ.. وَخَيْلُهَا أَسْرَعُ مِنَ النُّمُورِ،. وَفُرْسَانُهَا يَنْتَشِرُونَ، وَفُرْسَانُهَا كَالنَّسْرِ الْمُسْرِعِ إِلَى الأَكْلِ. يَأْتُونَ كُلُّهُمْ لِلظُّلْمِ.(حب1: 6- 9).
نعم ! إلهنا يجرح لا ليتشفي فينا بل ليشفينا ، فوراء اليد التي تمسك المشرط قلباً أبوياً يتجاوب مع آلامنالأَنَّهُ هُوَ يَجْرَحُ وَيَعْصِبُ. يَسْحَقُ وَيَدَاهُ تَشْفِيَانِ. (أي5: 18) وتأديب الله لشعبه هو لون من الوان الحب الإلهي الذي بلا حدود أو قيود ، فأمينة هي جروح المحب .
وبالرغم من استخدام الله للقوة البابلية الكلدانية ضد يهوذا، فلم يكن الله غافلاً عن خطايا بابل التي طغت وبغت واستبدت وظلمت ، لكنه أعلن لحبقوق أنه سوف يعاقبها في وقته بعد أن يتمم قصده ، فالعصا التي يستخدمها الله لتأديب شعبه ، سُتقصف وذلك بأشر وأشد منها ، فالخطية والعقاب يتلازمان ، وإن كان الله يمهل لكنه لا يهمل، فالله طويل الروح وكثير الرحمة … لكنه لا يترك عملاً شريراً دون عقاب فمكتوب ” أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟.
كما أن الرؤيا تؤكد على حقيقة جوهرية وهي أن ” َالْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا. (حب2: 4) وهذه الحقيقة هي بمثابة الموضوع الأساسي للسفر كله .
والرؤيا وإن كانت كما يبدو للبعض أنها في بعض الأحيان تتأخر، لكن كلمة الله تؤكد أنها ستأتي إتياناً ولا تتأخر ، في موعدها المضبوط بحسب تحديد الرب .
كيف لا ! ويسجل الوحي في إش60: 22 ” أَنَا الرَّبُّ فِي وَقْتِهِ أُسْرِعُ بِهِ».لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ وَقْتٌ… صَنَعَ الْكُلَّ حَسَنًا فِي وَقْتِهِ، وهذه الرؤيا تنطبق على فكرة التأديب الإلهي بوجه خاص كما في قرينتها الكتابية ، وتنطبق أيضاً بوجه عام على إتمام وتحقيق المواعيد الإلهية في رحلة مسيرنا مع الله .
نعم ! أن حبقوق برؤيته يدعونا لانتظار الرب .
أولاً : دعوة لانتظار الرب في روح الصلاة والدعاء :-
الجدير بالذكر أن حبقوق إسم عبري معناه المعانِق أو المعانَق، وهو في هذا المعنى يذكرنا بيعقوب الذي كان يصارع مع الله في الصلاة ، (تك ص32) وحزقيا الذي سجل عنه الوحي أنه التصق بالرب ،2مل18: 6
وهذا ما نراه بوضوح في مستهل الاصحاح الثاني من سفره عندما يقول ” عَلَى مَرْصَدِي أَقِفُ، وَعَلَى الْحِصْنِ أَنْتَصِبُ، وَأُرَاقِبُ لأَرَى مَاذَا يَقُولُ لِي، وَمَاذَا أُجِيبُ عَنْ شَكْوَايَ. (حب2: 1)، وهنا يشبه النبي نفسه برقيب واقف على المرصد، والمعني أنه في حالة من السمو فوق مباهج العالم، ودنايا الأرض، وفي روح الصلاة والتأمل والانتظار ليرى ماذا يقول الرب؟! . وكانت إجابة الرب ” إِنْ تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَانًا وَلاَ تَتَأَخَّرُ. (حب2: 3) وهنا نجد الله يدعونا لانتظاره في وقته ، ونحن نعلم أن توقيتات الله في غاية الدقة مهما بدا لنا أنه تأخر عنا يجب أن يكون انتظارنا يصاحبه الصلاة فنقول مع داود ” بِالْغَدَاةِ تَسْمَعُ صَوْتِي. بِالْغَدَاةِ أُوَجِّهُ صَلاَتِي نَحْوَكَ وَأَنْتَظِرُ. (مز5: 3)
+ كيف لا ؟! ألم يتدخل الله في حياة يوسف بعد أن وصل إلى قمة المعاناة كما يصفها الوحي ” أَرْسَلَ أَمَامَهُمْ رَجُلاً. بِيعَ يُوسُفُ عَبْدًا. 18آذَوْا بِالْقَيْدِ رِجْلَيْهِ. فِي الْحَدِيدِ دَخَلَتْ نَفْسُهُ، (مز105: 17، 18) وفي وقت من الأوقات ظن يوسف أن موعد النجاة من السجن قد حان على يد ساقي فرعون (تك40: 14) لكن الرب كان له توقيت وطريقة أخرى بعد سنتين كاملتين (تك41: 14) .
تخيل أحدهم أن يوسف ضاقت نفسه من السجن ففكر يوماً في الهروب منه ، وقام بخداع حارسه وهرب منهوتسلق سور السجن، وعندما وطأت قدماه الأرض خارج السجن غمرته فرحة عارمة، ولكن للأسف لم تدم طويلاً فلقد أمسكه حرس السجن وأرجعوه مرة ثانية للسجن، وشعر يوسف بخيبة أمل كبيرة ، وظن أن فرصة عمره قد ضاعت منه.
والسؤال ماذا لو خرج يوسف من السجن في التوقيت الذي كان يبتغيه هو، لقد تصور البعض ضياع مستقبله لأنه في نظر المجتمع من أرباب السجون، لا أحد يستأمنه على عمل معين، وتصور البعض الآخر أن أخوته ربما يدبرون له جريمة قتل بالفعل، خوفاً من ثأره منهم، أو خوفاً من أن يفتضح أمرهم عند أبيهم ، أما توقيت الله كان مرحلة هامة لا غنى عنها لإعداد يوسف الفتى المدللُ صاحب القميص الملون لكي تُسند له أرفع المناصب في مصر في ذلك الوقت وتحوله من مهانة القيد إلى مهابة القيادة .
كيف لا ؟! ألم يأتي الرب يسوع إلى سفينة التلاميذ المعذبة من العواصف الصاخبة والأمواج الهادرة في الهزيع الرابع من الليل ؟! فمكتوب48وَرَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ، لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ ضِدَّهُمْ. وَنَحْوَ الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ أَتَاهُمْ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ (مر6: 48) والبعض يتساءل لماذا ترك المسيح التلاميذ يتعرضون للمخاطر ويشعرون بالرعب، والأمواج تلاطم سفينتهم في الليل الدامس الظلام.
ربما لكي نتعلم كيف نسلم له ، وكيف نشعر بسلام مهما كان ، كل ما أدريه إن كنا لا ندرك حكمته لكننا لابد أن نكون على يقين من محبته ، فإن كان لا يأتينا في توقيتنا، يأتي في توقيته هو إنما بالطبع لحكمة إلهية ، وما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقة عن الاستقصاء .
+ كيف لا ؟! ألم يكن لعازر مريضاً ووصلت إلى مسامع الرب يسوع أخبار مرضه ، وانتظر حتى مات ودفن وتمت مراسيم العزاء ، وجاء بعد أربعة أيام بعد أن كان قد أنتن (يوحنا ص11) . وهنا نجد أنفسنا أمام علامة استفهام كبيرة لمذا تأخر الرب .. لماذا لم يذهب إليهم أثناء المرض ..؟!
نعم ! هذا هو وقته يأتي إلينا فيه ليتمجد اسمه ويزيد إيماننا في إله المعجزات.
+ يارب أغفر لي لكلماتي التي خاطبتك بها يوما عندما استبد بي الألم ، لقد شاركت المرنم في شكوكه فقلت معه يَا رَبُّ، لِمَاذَا تَقِفُ بَعِيدًا؟ لِمَاذَا تَخْتَفِي فِي أَزْمِنَةِ الضِّيقِ؟ (مز10: 1).
إِلَى مَتَى يَا رَبُّ تَنْسَانِي كُلَّ النِّسْيَانِ؟ إِلَى مَتَى تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي؟ (مز13: 1- 2)
يارب أغفر لي فكم من مرة شاركت التلاميذ في وسط البحر الهائج قولهم ” أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟» (مر4: 38) وكم من مرة قلت مع مرثا عندما تثقلت بأعباء الخدمة «يَارَبُّ، أَمَا تُبَالِي ؟ (لو10: 40)
نعم ! قد يتأني الرب لأهداف سامية تعود علينا بالنفع والفائدة وقد نكتشف هذه الأهداف في حياتنا ، وقد لا نتمكن من معرفتها إلا بعد حين، وقد يقول لنا لست تفهم الآن ما أنا اصنع ولكن ستفهم فيما بعد.
إن رؤية حبقوق تقول لنا تعال بشكواك وشكوكك .. تعال بجراحك وآهاتك، تعال بتساؤلاتك وعلامات استفهامك تعال بمخاوفك واحتياجاتك وانتظر الرب في روح الصلاة والدعاء واثقاً إنها إذا توانت فأنتظرها ستأتي إتياناً ولا تتأخر وسوف ترنم ” اِنْتِظَارًا انْتَظَرْتُ الرَّبَّ، فَمَالَ إِلَيَّ وَسَمِعَ صُرَاخِي، (مز40: 1)
ثانياً : دعوة لانتظار الرب بكل ثقة ورجاء :-
الإنسان في هذه الأيام بالرغم من التقدم العلمي المذهل الذي يوفر له كل وسائل الراحة والترفيه له ، إلا أنه يشعر بنوع من اليأس والإحباط والإحساس بالإخفاق والفشل .. عالم مضطرب ليس فيه أمان ، كأنه على فوهة بركان يعاني الصراع والضياع والفراغ .. يتأوه من تفاقم الصراعات السياسية والأزمات الاقتصادية ، وانهيار القيم الأخلاقية ، وتمزق في العلاقات الاجتماعية، نحتاج أن يعلو لحن الرجاء فوق كل ضوضاء وضجيج العالم.
إن الرؤية التي تنادينا ” إِنْ تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَانًا وَلاَ تَتَأَخَّرُ. (حب2: 3) تحمل معنى انتظارالرب المقرون بالصبر بالثقة والرجاء وهذا ما يؤكده المرنم في مز27: 14 ” 14انْتَظِرِ الرَّبَّ. لِيَتَشَدَّدْ وَلْيَتَشَجَّعْ قَلْبُكَ، وَانْتَظِرِ الرَّبَّ. ، وفي مز37: 7 انْتَظِرِ الرَّبَّ وَاصْبِرْ لَهُ، فالرجاء المنظور ليس رجاء ، لأن ما ينظره الإنسان كيف يرجوه أيضاً ولكن إن كنا نرجو ما ليس ننظره فإننا نتوقعه بالصبر
الرجاء المسيحي مبني على ما لسنا ننظره ، شعاره 2كو4: 18 وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى الَّتِي لاَ تُرَى. لأَنَّ الَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا الَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ. ” لأن البار بالإيمان يحيا ” .
نعم ! الرجاء المسيحي يثق في إله قادر، أن يُحْيِي الْمَوْتَى، وَيَدْعُو الأَشْيَاءَ غَيْرَ الْمَوْجُودَةِ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ.(رو4: 17)
الرجاء المسيحي يثق في أن الله قادر أن يحول الشر إلى خير ، وأن يفجر من الصخرة ينبوع مياه ، ويجعل في البحر طريقاً ، والغير مستطاع لدى الناس مستطاع لدي الله ، فهو إله المعجزات ويستطيع كل شيء ولا يعثر عليه أمر ، الرجاء المسيحي يثق أن الشمس خلف الغيمة، وأن الله قادر أن يحول لي الغيوم إلى أمطار من الخير والبركة ، ويثق أن حياتنا ليست كريشة في مهب الريح، بل هي في مخطط وبرنامج إلهي عظيم ورائع ، كما قال أحد الأتقياء ” حياتي خطة إلهية “، ونثق أنه لا توجد تجربة تأتينا إلا قبل أن تأخذ جواز مرورها من الرب ليضع لمساته ويجري تعديلاته عليها قبل أن يسمح بوصولها إلينا ، أثق أن الرب في العلى أقدر من أي مشكلة أو تجربة أو احتياج .
إن المسيحي وسط كل عوامل الاضطراب يحيا على أمل ورجاء ، حتى لو كان المستقبل أمامه مجهولاً أو مظلماً ، فإن كنا لا نعرف الطريق لكننا نعرف الرفيق الذي يلازمنا ويزاملنا رحلة الأيام، إنه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، إلا أن البعض يتصور أن الرجاء المسيحي مرتبط فقط بالأبدية بعد إنتهاء حياتنا على الأرض ، فعندما يجتاز في ضيقات على الأرض فإنه يعيش على أمل التمتع بالأمجاد.
أي نعم ! لنا رجاء في المسيح في الحياة الآتية في السماء ، لكن هذا لا ينفي أنه لنا أيضاً رجاء في المسيح هنا على الأرض .
فعندما قال الرسول بولس ” إِنْ كَانَ لَنَا فِي هذِهِ الْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي الْمَسِيحِ، فَإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيعِ النَّاسِ.(1كو15: 19) لم يقصد أن ينفي الرجاء الذي لنا في المسيح في حياتنا على الأرض، بل بالعكس فالنص يؤكد أنه لنا رجاء في هذه الحياة، ويتخطاه إلى ما بعد الحياة على الأرض، فالله أنار لنا الحياة والخلود بواسطة الإنجيل .
نعم ! لست أتخيل الحياة بدون رجاء ، فلا حياة مع الإحساس باليأس والإحباط ، ولهذا شدا الرسول بطرس في مستهل رسالته الأولى قائلاً : مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ، (1بط1: 3) ، ثم يقول ” قَدِّسُوا الرَّبَّ الإِلهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ، بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ، (1بط3: 15) .
نعم ! نحتاج إلى التدريب على انتظار الرب بقلوب مفعمة بالرجاء، وهذا ما يسجله المرنم في مز62: 5 إِنَّمَا ِللهِ انْتَظِرِي يَا نَفْسِي، لأَنَّ مِنْ قِبَلِهِ رَجَائِي. ، ولقد ترجم ﭽون كلفن هذه الآية بمعنى ” اسكني يا نفسي أمام الله ، استريحي بهدوء وبلا اضطراب أمامه “
ثالثاً : دعوة لانتظار الرب المقرون بالثبات والانتماء :-
أن مضمون الرؤيا التي رآها حبقوق عندما وقف على مرصده ليرى ماذا يقول الرب هو ” الْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا.” (حب2: 4) وكلمة (الإيمان) في العبري تعني (الثبات) وهي نفس أصل الكلمة (آمين).
والثبات يُقصد به الأمانة، فالأمين هو الشخص الذي يحب الرب محبة واثقة فيثبت فيه، وانتظار الرب يحمل معني الثبات والانتماء له الذي يجعلنا تتغني ثَابِتٌ قَلْبِي يَا اَللهُ، ثَابِتٌ قَلْبِي. (مز57: 7).
نعم ! قد نلاقي في مسيرنا في ذي الحياة كل أو أصناف المصاعب والمتاعب ، وكل أشكال وألون الترغيب والترهيب التي تحاول أن تزعزعنا وتشككنا وتبعدنا عن الرب فمكتوب . فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ». ( يو16: 33 ) ولكن انتظار الرب المقرون الثبات والولاء يجعلنا نشدو قائلين مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضَِيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:«إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ». وَلكِنَّنَا فِي هذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا. فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ، وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ، وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ، وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا. (رو8: 35- 39) .
أعرف شخصاً تعرضت حياته لتجارب قاسية كادت أن تدمر حاضرة وتحطم مستقبله ، لكنه استطاع أن يمسك بقلمه ويسطر ترنيمة جميلة تحمل أجمل معاني السلام مع الله وأخذ على عوده يشدو بها بصوته الحلو، نعم ترنيمة جميلة طالما ترنمنا بها وهي ” اَلرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي، مِمَّنْ أَخَافُ؟ الرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِي، مِمَّنْ أَرْتَعِبُ؟ عِنْدَ مَا اقْتَرَبَ إِلَيَّ الأَشْرَارُ لِيَأْكُلُوا لَحْمِي، مُضَايِقِيَّ وَأَعْدَائِي عَثَرُوا وَسَقَطُوا. إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي. إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ فَفِي ذلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ. (مز27: 1- 3). وفي مرة أخرى أخذ يشدو قائلاً :اَللهُ لَنَا مَلْجَأٌ وَقُوَّةٌ. عَوْنًا فِي الضِّيْقَاتِ وُجِدَ شَدِيدًا. لِذلِكَ لاَ نَخْشَى وَلَوْ تَزَحْزَحَتِ الأَرْضُ، وَلَوِ انْقَلَبَتِ الْجِبَالُ إِلَى قَلْبِ الْبِحَارِ. (مز46: 1- 2).
والثبات والانتماء في انتظار الرب يعني الثبات الإيجابي المتحرك العامل المنطلق نحو حقول جديدة في خدمة الله.
ثبات ينسى ما هو وراء وينطلق بصفة مستمرة إلى ما هو قدام.
ثبات متجدد الرؤى والأشواق والأهداف المقدسة، ثبات يقدم الحق الغير متغير بأساليب وطرق متنوعة ومتغيرة ومتطورة تناسب سمة العصر.
ثبات يسعى نحو الغرض ، نحو جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع .
ولعل هذا ما قصده حبقوق بما سجله في سفره فَأَجَابَنِي الرَّبُّ وَقَالَ: «اكْتُبِ الرُّؤْيَا وَانْقُشْهَا عَلَى الأَلْوَاحِ لِكَيْ يَرْكُضَ قَارِئُهَا، (حب2: 2). وفكرة الكتابة على الألواح مأخوذة من طريقة عرض لافتات الدعاية والإعلان على المحلات التجارية ، يجب أن تكون اللافتة مكتوبة بصورة واضحة وجاذبة ، وأحياناً تضاء اللافتاتبالأنوار حتى يتمكن من قراءتها كل من يركض ويسرع في طريقه ، لا تأخذ منه وقتاً أو مجهوداً هكذا يجب أن يكون دورنا في تأدية الرسالة التي أوكلنا الرب عليها في وسط عالم يركض ويلهث في مشغوليات ومسئوليات الحياة ، يجب أن نذهب إليه ونقدم له الرسالة بكل الطرق واضحة وسهلة حتى يتمكن من استيعابها.
والمعنى الثاني المقصود ” لكي يركض قارئها أي أن كل من يقرأ الرؤيا يحمل بدوره المسئولية فيركض لكي يعلنها ويخبر بها الآخرين . يملأ الدنيا ترنماً ” ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب.
ليس من الضروري أن يكون هناك مرصد أو حصن ما تصعد إليه كحبقوق ولكن المقصود، ادخل إلى مخدعك وإنتظر الرب في روح الصلاة والدعاء، تناجيه وتحاوره وتستمع وتستمتع بصوته، وتنتظره بكل ثقة ورجاءمرتفعاً فوق صعاب الحياة ، وبفكر الثبات والانتماء ترى رؤى القدير وتنطلق لخدمة مثمرة ومؤثرة ، هذا هو الإيمان الذي يمكن أن يعيش به البار عبر كل الأجيال والعصور.