ألقى غبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، محاضرة بعنوان “المسيحيون ومستقبل الشرق الاوسط” في قصر الامم المتحدة في جنيف بدعوة من السفير البابوي رئيس بعثة الكرسي الرسولي الى مكتب الامم المتحدة في جنيف المطران سيلفانو تومازي،
حضر اللقاء سفراء ورؤساء بعثات معظم الدول الممثلة في مكتب الامم المتحدة في جنيف ومنها: لبنان، الفاتيكان، سويسرا، مصر، تركيا، الولايات المتحدة الاميركية، روسيا، فرنسا، ايطاليا، تايوان، فلسطين، ليتوانيا، تونس، البرتغال، النروج، الاردن، المغرب، اليونان، العراق، الامارات المتحدة العربية، الاورغواي، فنزويلا، ليبيا، اثيوبيا، اوغندا، ايرلندا، استونيا، جمهورية الدومنيكان، ايسلندا، منظمة مالطا، اضافة الى حضور منظمة التعاون الاسلامي.
وفي محاضرته التي تمحورت حول ثلاث نقاط اساسية وهي: أهمية الوجود المسيحي في البلدان العربية، زعزعة الإستقرار في دول الشرق الأوسط وأسبابه، واخيرا الحلول من اجل مستقبل افضل، اعتبر البطريرك الراعي ان المسيحيين يعيشون في هذا الشرق منذ نحو 600 سنة قبل الإسلام، وقد أغنوا حضارة المنطقة بمختلف تقاليدهم الشرقية، اي بارثهم الليتورجي واللاهوتي والروحي والتنظيمي الخاص بكل كنيسة. فكانوا كالخميرة في العجين على كافة المستويات. وهكذا اصبحت المسيحية عنصرا اساسيا في حضارة هذه البلاد مع ما نقلته من قيم اخلاقية وانسانية الى المجتمعات المسلمة. كما انها بدورها، استفادت من القيم والتقاليد الخاصة بالإسلام. وهذا التفاعل بين الثقافتين المسيحية والإسلامية أوجد الإعتدال والإنفتاح عند الغالبية المسلمة ما يشكل اساسا للأمل بمستقبل أفضل في الشرق الاوسط.
ولفت غبطته الى ان جميع الكنائس في الشرق الأوسط تبشر بانجيل يسوع المسيح وهي تعيش فيما بينها علاقات كنسية ومسكونية متناغمة، ذاكرا ما قاله البابا بنديكتوس السادس عشر في ارشاده الرسولي شركة وشهادة بان الوجود المسيحي في الشرق الاوسط يتخطى كونه مجرد انتماء سوسيولوجي اومجرد نجاح اقتصادي او ثقافي بسيط. فلقد أغنى هذا الوجود المجتمعات المشرقية بقيم انجيلية، كقدسية الحياة البشرية، كرامة الانسان، الحريات والحقوق الاساسية، احترام الإختلاف، معنى الديمقراطية والإنفتاح والإعتدال.
وأشار الى ان المسيحيين لطالما كانوا رواد نهضة الثقافة العربية وهم لا يزالون مستمرين على هذا النهج من خلال مدارسهم، جامعاتهم، مطابعهم ودور النشر اضافة الى مختلف وسائل التواصل التي يملكونها. فهم يعلمون جيدا ماهي التحديات الكبيرة التي تواجههم ومع ذلك فهم يعلمون ايضا كيف يحملون رسالة الخلاص في ارضهم.
وعن زعزعة الإستقرار في الدول العربية أوضح الكاردينال الراعي ان الحياة المسيحية الاسلامية المشتركة تعاني اليوم من زعزعة قوية لأسباب عدة ابرزها تفكك الانظمة العربية التي حلت مكانها انظمة عززت النظام الديني المسلم وامنت سيطرة الحزب الواحد وتهميش باقي الشرائح ما ادى الى انعدام الثقة بين مختلف مكونات المجتمع الواحد، اضافة الى صراع اسرائيل مع الفلسطينيين والدول العربية وادخال المنطقة في صراع عقائدي، ديني ومذهبي واشعال بذور الصراع السياسي بين الدول العربية السنية والشيعية الذي تحول فيما بعد الى صراع عسكري بين ايران والعراق وكان له انعكاساته على الساحة اللبنانية. وحلت مكان المواطنة العربية، المذهبية والطائفية. هذا اضافة الى بروز تيارات اسلامية اصولية راديكالية دعت الى الثورات الشعبية التي تحولت من ثورات سلمية الى اخرى تدعو الى تطبيق الشريعة الإسلامية رافضة مبدأ العيش المشترك بين الطوائف ومستخدمة اسم الله لغايات خاصة اهمها الإستيلاء على السلطة بالقوة لأسباب سياسية اقتصادية. ووسط هذه الظروف تحول المسيحيون كما غيرهم الى ضحايا بريئة طالهم القتل والفقر والهجرة والإعتقال والتهديد ودنست كنائسهم ودمرت. وقد ندد البابا فرنسيس مرارا بهذا الوضع القاسي للمسيحيين.
اما الحلول فلقد عرضها البطريرك الراعي وفق الرؤية المستقبلية للشرق الأوسط وكيفية تامين سلام عادل ودائم، طارحا ابرز الوسائل المعتمدة للوصول الى هذا الهدف. فاشار الى ان الكنيسة تتمنى مستقبلا زاخرا بالسلام يرتكز على اربعة اسس: الحقيقة، العدالة، المحبة والحرية.
وهذا ما دعا اليه ولا يزال، قداسة البابا فرنسيس بندائه الدائم لإيجاد حل سياسي من خلال الحوار، يؤمن الوصول الى حلول دائمة وصحيحة. ولفت غبطته الى ما ردده دائما السفير البابوي في جنيف المونسنيور توماسي امام الامم من ان الحلول التي تقترحها الكنيسة لفض النزاع في الشرق الاوسط وسوريا يجب ان تشمل وقفا فوريا لإطلاق النار، تسليم السلاح ووقف تدفقه وتمويله، ضرورة ان تدعم الاسرة الدولية، وبعيدا عن مصالحها الخاصة، العملية السياسية لوقف العنف ومشاركة جميع الفرقاء في ادارة حكم البلاد كمواطنين متساويين في الحقوق والواجبات، الدعوة الى احترام حقوق الانسان والتنبه الى ان الحرب في سوريا ستعزز الصراعات الإقليمية وستتنتج مواجهات اتنية ودينية واصولية كما انها ستؤدي الى تدمير البلاد بشكل كامل.
ثم اقترح غبطته فكرتين في هذا السياق لمستقبل افضل وهما ان يتمكن المعتدلون من تسلم الحكم بدعم من الجيش، وقيام انظمة سياسية معتدلة تحترم حقوق الانسان وحرية تعبيره ومعتقده. كما دعا الى وساطة فعالة تقوم بها الدول الصديقة والهيئة الدبلوماسية لدى الكرسي الرسولي تهدف الى تشجيع كل من السعودية وايران على تسوية النزاع بينهما عن طريق المفاوضات وليس المواجهات غير المباشرة لأن الكل يعلم ان الصراع السني الشيعي في العراق وسوريا ولبنان مرتبط بالصراع الإيراني السعودي.
ونبه غبطته الى ان اصل المأساة في منطقة الشرق الأوسط هو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والصراع الاسرائيلي العربي، لذلك على الأسرة الدولية ان تتحرك لإيجاد حل لهذين النزاعين وذلك بتطبيق قرارات مجلس الأمن القاضية بعودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم، انشاء دولة فلسطينية، انسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة في لبنان وسوريا وفلسطين واعتبار القدس مدينة مقدسة للديانات الثلاث: اليهودية، المسيحية والاسلام. كذلك هناك حل جذري يجب ان يطبق في الشرق الأوسط وهو مساعدة اليهود والمسلمين على ان يخطوا الخطوة المسيحية في فصل الدين عن السياسة مع التأكيد على الإحترام المتبادل بينهما. ولبنان يقدم نموذجا فريدا في هذا الإطار حيث يعيش فيه المسلمون والمسيحيون وفق ميثاق الـ1943 الذي يدعو الى العيش المشترك والمتوازن بين المسيحيين والمسلمين تحت مظلة الدستور اللبناني وهذا ما اثنى عليه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني عندما دعا باقي الدول الى اعتماد هذا النموذج.
وختم البطريرك الراعي منبها الى ان لبنان مهدد بفقدان ميزته الفريدة هذه، بسبب انعكاس الأزمة السورية على ساحته الداخلية على ثلاثة مستويات: سياسيا، اقتصاديا وامنيا. لذلك يجب وضع حد لهذه الحرب وخصوصا من اجل عودة المليون ونصف مليون نازح سوري الى ديارهم فهم يشكلون ثلث الشعب اللبناني وفي انتظار تحقيق هذا الأمر يجب على الأسرة الدولية ان تؤمن لهم مخيمات في المناطق الآمنة داخل سوريا.
بعد ذلك اجاب غبطته على اسئلة الحضور ثم انتقل الى غرفة الصحافة حيث ردّ على اسئلة الصحافيين في لقاء عام معهم، وقد تركزت الاسئلة حول الوضع في لبنان والشرق الاوسط ودور الاسرة الدولية في عملية السلام.
هذا وقد قام غبطة الكاردينال الراعي بزيارة المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة حيث التقى المفوض الاعلى السيد انطونيو غوتيريس وعرض معه لأعمال المفوضية في لبنان وسوريا والمساعدات الانسانية التي تقدمها. وكان تأكيد على ضرورة توسيع وتكثيف المساعدات وايجاد حلول سياسية تسهل العمل الانساني. وإذ كرر غوتيريس ان نسبة اللاجئين الى لبنان تعتبر الاعلى في العالم حيا اللبنانيين على حسهم الانساني وعلى فتح أبوابهم مؤكدا ان المفوضية ستبذل اقصى جهدها للتخفيف من العبء الاجتماعي الذي يحمله لبنان. كما أوضح انه سيزور لبنان الشهر المقبل لمتابعة العمل عن كثب مع كافة المعنيين. من جهته اكد غبطته على ضرورة ايجاد اماكن آمنة للاجئين داخل الاراضي السورية وعدم تحميل لبنان اكثر من طاقته وتجنيبه التداعيات الاقتصادية والامنية الامر الذي لاقى تجاوب المفوض العام الذي نوه بقراءة غبطته للاوضاع في الشرق الاوسط وبجهوده الأيلة الى نشر السلام والاستقرار والحوار البناء.