هذه يا صديقي ليست كلمات شخص يئس من حياته.. أو شخص يضجر على العالم الذي لم يعطه ما أراد فوصفه بالفقر.. بل إنها أيضا ليست كلمة لأحد المرضى أثناء احتضاره فى لحظاته الأخيرة..ولا هى مقولتى أيضا.إنها كلمات قالها بل عاشها القديس اغسطينوس من قبل,وعاشها من بعده إنسان مات قبل أن يمُت،إنسان ودع الحياة قبل أن تودعه الحياة..
فأدار لها ظهره قبل أن تفعل هي ثم تلقي به في بحر النسيان كأي فرد منـّا يأتي إليها ثم يرحل فتتلاشى ذكراه شيئاً فشيئ.. إنهـا كلمات قد عاشها الشاب نظير جيد وهو فى ريعان شبابه وهو فى عظمة قوته وفى قمة شهرته..
إنها قصة شاب أعطاه العالم ما يريده أى حي كبشر فكان نظير كاتبا شاعرا أديبا .. واعظا مشهورا ،ومع ذلك وبالرغم من الشهرة والمشغوليات الكثيرة.. نطق أخيرا في حسم من أمره: “ولكنّي مازلت أشعر بفراغ كبير في قلبي لن يملؤه إلا واحد هو الله” هكذا كان يفكر الشاب نظير في العالم.. كان يعيش فى العالم دون أن يعيش العالم فيه أو يدخل إلى قلبه .فشعر أن العالم فقير جدا وأن الحقيقة الواضحة هى أن الله هو مصدر الشبع الحقيقي والغنى الحقيقي عنده وحده ، وفى لقائه فقط.. فقال فى فكره “اذهب إلى الدير” وكان ذلك في عام 1954م وودع الجميع قبل الرحيل إلى حيث يشتهى..
وحينما سُأل..لماذا قررت الرهبنة في ذلك الوقت بالتحديد .أجاب:”قبل أن أدخل إلى الرهبنة ،كانت قد دخلت إلى قلبي أولا” وهكذا كان راهبا قبل الارتباط بميعاد محدد للرهبنة.. فكان راهبا قبل أن يترهب.
هذا هو البابا شنودة الثالث هو الراهب أنطونيوس السرياني ،وهو الشاب نظير جيد أيضا.. كان العالم تافها في نظره منذ البدء ليس يأساً فى الحياة أو ضيقا فى العيش أو بسبب الآم جسدية أو نفسية فإنه كان محبوبا جدا بين أقرانه وعائلته وفي كل مكان.. لكنه كان شعور دائم مستمر معه يستيقظ وينام معه يسكن في قلبه أينما حل. فى أوقات الرخاء والفرح كما فى أوقات الضيق والألم، فاستطاع أن يترك العالم وراء ظهره بسهولة وبلا رجعة ليبدأ طريق الجهاد الطويل فبدأ براهب يخدم فى مكتبة الدير ومطبعته ثم راهب حبيس في قلايته الصغيرة ثم متوحد في مغارة تبعد كيلومترات عن الدير ولكن كانت إرادة الله هي تغيير مجرى حياته كليةً ليخدم كراعى فى العالم.. وما أقسى الرجوع إلى العالم بالنسبة لراهب متوحد ولكنها إرادة الله..
حاول أبونا أنطونيوس الهروب كثيرا ولكن لم يفلح في كل مرة. فبكى يوم رسامته أسقفا للتعليم باسم “الانبا شنودة” كما لم يبكِ من قبل ،ولكن ذكرى حياة الجبال ظلت تراوده وسط مشغوليات الأسقفية. فكان يقضي بعضاً من وقته فى الدير للخلوة مع الله. ثم أراده الله بطريركا عام 1971م فظل على نفس التقليد وكان أول “بابا” يقضي نصف الأسبوع في الدير والنصف الآخر لأمور الرعاية !!
وقفنا نودعه في حزنٍ بدموع ربما هو حزن الفراق فراق للضحكة التي تدل على قلب شديد النقاء ..فراق لرجل احبته القلوب بنهم ٍ شديد فصار رجل القلوب الأول .. فهو حزن لفراق رجل تجرد عن كل رغبة وعن كل الأشياء حتى ذاته تركها دون مبالاة أو اهتمام تركها للبذل نعم فلتنظر يا صديقى إلى محاضرته الأخيرة محاضرة الوداع، ولتشاهد جيدا كيف كان يعظ ويعلم حتى أنفاسه الأخيرة..للدرجة التى ظننت فيها – يا صديقى- أنه سيقع مغشياً عليه حتما فأنفاسه وصوته متقطعين مبحوحين والأمراض ظلت تأكل فى جسده دون أن يعلن لنا إلى أن كشفت عن نفسها دون قصد في تلك المحاضرة وفضحته ليظهر لنا ما كان يخفيه..ولكن شفتيه مازالت تنطق، عينيه مازالت تتحرك لتنظر، قلبه مازال ينبض ، عقله يفكر. فلِمـا لا يخدم حتى “البـــذل” !!..
هكذا كان يعيش البابا شنودة دون أن ندري انه كان صورة واضحة يا صديقى للمسيح المصلوب في زمنٍ يبحث فيه المسيح عن مصلوب فلا يجد ، ربما يجد من يخدم من يرعى من يهتم باحتياجات الآخرين ولكن قلّما يجد بين هؤلاء من يبذل نفسه حتى “المــوت”.. هكذا كان يعيش البابا شنودة متشبها بحبيبه المسيح فكان يقول لكل راعي يرسمه سواء كان أسقف أو كاهن:”أمامنا طريقين لا ثالث لهما ،إما أن نستريح نحن ويتعب الناس أو أن نتعب نحن ويستريح الناس” وكما تصف القسمة المسيح “لأجلنا فضل التألم على التنعم والشقاء على الراحة …. يالِــعظم حبك!” فتعلم ذلك الرجل العظيم حياة البذل من حبيبه المسيح بذل حتى الموت ولا عجب في ذلك فالذي ترك كل شئ حتى ذاته من أجل الله يستطيع أن يضحّي بنفسه عن طيب خاطر.
فلا تحزنوا يا اخوتي وابائي فقد ذهب إلى مشتهاه الذي ينتظره منذ زمن بعيد.. البابا شنودة لم يمُت منذ شهور كما جاءكم الخبر إنما قد مات منذ أن اقاموا عليه صلوات التجنيز ولبس ملابس الرهبنة السوداء إنها رغبته منذ البدء ولو أردت المعنى أكثر وضوحا.. أقول لك: إن البابا شنودة لم ولن يمـُت أبدا .. إنه أقوى من أن يمُت ، كلماته تعيش بيننا ، رعايته تحتضن قلوبنا ، نبرات صوته الحانية مازالت ترشدنا بحنو إلى طريق الله ، كلما قرأت سطوراً من كتبه تحدثت لنفسى بثقة شديدة : “هو معنا ” .. فهل يود أحدنا بأنانيته البشرية المريضة أن يحرمه من رغبته التي طالما كان يحلم بها هذا الذي عاش مُلبياً لرغباتنا جميعا وراعيا مثاليا لنا.. إنما هي فقط دموع الـــوداع..
“إن الكلمات لا تعبر عن هذا المحبوب” هكذا قال الأنبا باخوميوس في التجنيز وهو أحد أبناء البابا الروحيين.. ولذلك فسأكتفي يا صديقي بهذه الكلمات الضئيلة جدا في حق ذلك العظيم .. وسنكمل ما نريد أن نحكيه عنه بدموعنا دموع الحب ..فهي أقدر على التعبير وأقرب إلى الصواب.. ولتعزينا أمنيته الوحيدة التي صاغها في شعره قائلا:
يا إلهي أعمق الحب هواك يا إلهي لي اشتهاءٌ أن أراك
وليشفع فينا أمام عرش الله الحيّ إلى أبد الآبدين..