حيث أن لجنة القصة كيان أدبي بالمجلس الأعلى للثقافة ويمارس أعضاءه أعمالهم وأبحاثهم تحت مظلة وزارة الثقافة وكلهم من الخبراء في مجال القصة والرواية والنقد الأدبي فقد تدارسوا ما ورد في حيثيات الحكم الصادر من محكمة جنح بمحافظة بني سويف بحبس الكاتب كرم صابر إبراهيم خمس سنوات طبقاً لمادة 98 من قانون العقوبات
التي تقضي بمعاقبة المتهم بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز ألف جنيه كل من استغل الدين في الترويج بالقول أو الكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية .
وقد تدارس أعضاء اللجنة نص الحكم وحيثياته وظروف إصداره كما تناول الأعضاء بالبحث النقدي والتقييم الأدبي مطبوعة الكاتب موضوع القضية وهي مجموعة من القصص تحمل عنوان ” أين الله ” ، وبعد مناقشة طويلة ومعمقة انتهى الأعضاء إلى وجهة نظر تتلخص تفاصيلها فيما يلي :
أولاً : تؤكد اللجنة احترامها الكامل للسلطة القضائية بكل أطرافها وأصولها وفروعها وتقدر تماماً النية الصادقة التي دفعت المحكمة الموقرة لإصدار الحكم والتي تنطلق من الحرص على سلامة البنية الاجتماعية والحفاظ على الانسجام العضوي بين المواطنين من كافة الفئات والطوائف .
ثانياَ : تؤكد اللجنة احترامها للمواد التي تضمنها الدستور الذي يقر بأن على الدولة أن تتكفل بحماية حرية التعبير وعدم تحريك أي دعوى لوقف أو مصادرة أو معاقبة أي كاتب أو فنان .
ثالثاً : لاحظ الأعضاء أن قائمة أدلة الثبوت تتضمن شهادة لمحمود إبراهيم طه ( مفتش بوزارة الأوقاف ) وأحمد هاشم ( محرر بجريدة محلية ) وسيد جاد المولى ( مساعد شرطة ) وأحمد خشبة ( ملازم شرطة ) وهم من أصحاب المهن غير المحايدة ، وشهادتهم تعتبر مجروحة .
رابعاً : جاء في أدلة الثبوت ص 11 أن الأم خرجت من الصلاة وسبت ولدها ، وهذا سلوك الشخصية وليس سلوك الكاتب ، ومن ثم فليس دليل ثبوت ، وهو ما يكشف غياب الفهم الدقيق لمعنى الأدب وجمالياته.
خامساً : جاء في أدلة الثبوت لفن الأدب ص 86 ما يلي :
” اشتط الرب غضباَ وحاولت الملائكة تهدئته فأحضر كبيرهم قطعة كبيرة من المخدرات تزن عشرين كيلو جرامات ووضعوها على حجر الشيشة الذي يبلغ طوله ثلاثة كيلومترات ” .
وهذا يعد من قبيل الفانتازيا أي الخيال المسرف ولا علاقة له بالواقع ولا يخضع للمؤاخذة أو الحساب ، ويدل على افتقاد الشاهد لدور الأدب الذي امتلأ على مدى التاريخ بالغرائب والعجائب ، ومنه الكثير في ألف ليلة وليلة .
سادساً : وردت في القصص بعض العبارات التي تتناول سوء تصرف الشخصيات في موضوعات اجتماعية عديدة مثل المواريث .. وقد تبين للجنة أن الكاتب يعيب على الشخصيات ولا يعيب على الدين .
سابعاً : كثرة الحديث في أدلة الثبوت عن الإضرار بالوحدة الوطنية ، ولم تعثر اللجنة على مشهد واحد يمكن أن يضر الوحدة الوطنية ، أو يزدري أي دين سماوي أو أرضي .
ثامناً : تؤكد اللجنة أن ما ورد بالقصص موضوع التهمة ليست إلا عرضاً للممارسات الدينية لأبطال القصص وهو الشكل المصري للتدين الذي يؤمن بالبساطة لا بالتطرف وأن الدين يسر لا عسر ، ويسمح للمؤمن بأن يتحاور مع الله ويعاتبه خاصة إذا لاحظ ظلم الناس وقهر السلطة أو قلة الرزق وهذه الأمور سائدة في كل القرى والمدن المصرية .
تاسعاً : يقول بطل إحدى القصص : ” الله في كل مكان فلن تحتاجوا إلى الجوامع ولا إلى الصراخ للتواصل معه ” وهذه لا شك لغة لن يفهمها رجال الدين لكنها لغة أدبية ولغة البسطاء والأتقياء غير المعقدين أو الذين يتصورون الدين .
عاشراً : ما في هذه القصص هو الدين الشعبي المصري الموجود منذ آلاف السنين الذي يعبر عن الحب العميق لله ، وأنه في في قلوبهم حتى لو لم يحرصوا على الصلاة لكنهم يعبدونه بكل حواسهم وأفكارهم .
أحد عشر : الرب بالنسبة للمصري ليس الخالق البعيد الساكن في قصر منيف ولا تعامل بينهم وبينه ، لكنه القريب اللطيف والحبيب السميع البصير لذلك فالمصري يشكو إليه بالليل والنهار ويطلب عونه حتى وهو يرفع حقيبة أو يدفع سيارة أو يجر زورقاً ، ويتمنى أن يكون معه في كل سلوك وفعل .
اثني عشر : الكاتب كان متعاطفاً مع المصريين البسطاء لذلك تهيمن على القصص حالة من المعاناة الدائمة بسبب الظلم والقهر واستبداد السلطة والملاحقة ، ويقول بطل إحدى القصص :
” أيها الرب الجميل المملوء رحمة نحن ننتظرك بالقرب من محطات القطارات وعلى نواحي الحارات كي تهلك بيديك كل الظالمين لنعيش في ملكوت رحمتك الباقي من العمر سعداء آمنين .. أيها الرب انت الأمل .. عد إلينا ” .
ويقول في موضع آخر : ” يا رب هل تراني وتسمعني .. هل تجدنا وتحمي قلوب أهل قريتي من غل التجار ؟ وترفع البرقع ليزيد بجمالهن حياتنا المظلمة وتأمر بسيف ميزانك العادل بالحب ، لينعم من يعطون عرقهم وجهدهم لمدينتك الفاضلة ؟ .. يا رب إنني أراك وأثق أنك ستعود لتحمينا .
ثلاثة عشر : ترى اللجنة أن السادة القضاة الأجلاء يدركون أن الملاحقة والمصادرة والتعسف لم تكن سمة من سمات التعامل مع حرية التعبير إلا في فترات التشدد الديني وتزايد وتيرة القضايا المرتبطة بما يسمى ازدراء
الأديان التي شاعت وسادت إبان حكم الرئيس السابق محمد مرسي بما يعني العلاقة الحميمة بين وجود جماعة الإخوان الحاكمة والحكم الذي أخذه بأقصى العقوبة .
أربعة عشر : يرى أعضاء اللجنة أن النيابة كان يتوجب عليها في مثل هذه القضايا الملتبسة أو الغامضة نسبياً على الكثير من الشهود تحري الحقيقة القصوى بضرورة التحقيق مع الكاتب قبل تحريك البلاغ ورفعه إلى السلطة العليا للقضاء .
خمسة عشر : يؤكد أعضاء اللجنة وجموع الكتاب والمفكرين المصريين أن أي بلاغ أو تحقيقاً يخص حرية التعبير الأدبي والفني يتعين الاستعانة في فض وبحث غموضها أو لبسها بالرجوع إلى الخبراء في هذا النوع من المجالات المعرفية المميزة التي لا يدري أسرارها وتفاصيلها وظروف إبداعها إلا ممارس وعالم فيها أو خبير بعوالمها الخاصة ، وهناك في هذا السياق جهات رسمية تابعة لوزارة الثقافة وهناك جهات مماثلة ضمن الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني ، أسوة بما يتم مع خبراء في المجالات الطبية والهندسية .
وبعد.. فإن لجنة القصة – وهي تؤكد مجدداً احترامها للسلطة القضائية – ترى أن هذا الحكم قد قام على أساس فضفاض ولم تأخذ النيابة وقتها الكافي وإجراءاتها البحثية بما يضمن تحقيق العدالة التي لا ترى النور إلا بعد أن يكشف من تتوجه إليه التهمة بدوافعه وأسبابه ونواياه وملابسات ما اقترف مما يقع تحت طائلة القانون .
ويهيب الأعضاء بالمنصة العالية للقضاء الشامخ ألا تغيب عنهم طبيعة المبدع فناناً كان أو أديباً من حيث خياله ومحاولته التعبير عن أوجاع المواطنين واستنطاقهم من خلال الشخصيات للبوح بشكواهم وآلامهم وأحلامهم الذي يدفعهم في كثير من الأحيان للخيال والتحليق عبر الأزمنة والأمكنة والغرائب .
كما يؤكد الأعضاء رفضهم الشديد لعودة عهود القهر والاستبداد والمطاردة والقمع فيها يخص قضايا حرية التعبير خاصة أنها لازمة للدفاع عن الكرامة الإنسانية وعن أماني الجماهير التي عانت طويلاً من البطش والاستغلال ، ورغبتها في أن تشهد في السنوات المقبلة معالم حياة جديدة تشرق عليها شمس الحرية والعجل والرخاء ، ولن يكون ذلك عال إلا في ظل قضاء عادل ومستنير ونبيل وعطوف .
عاشت مصر حرة وكريمة ودام قضاؤها عزيزاً وشامخاً وحارساً للإبداع والحق والخير والجمال .