لا سلام من دون سلام الله .ولكن أي سلام هو هذا؟ هو السلام الغائب دوماً، هو سلام أضاعه عالمنا، أبدله بمنطق العنف، والحرب، بمنطق الإرهاب والقمع،
بمنطق الخوف والقلق. قلبنا صار في حالة هلع دائم. نخاف من كلّ شيء ومن كلّ إنسان. نخشى الدخول في علاقة مع الآخر، لأنّ منطق الآخر تحوّل من منطق القريب الّذي أحيا معه، الى منطق الغريب الحامل الخطر والأذية.
إن روح الانتقام أصبحت تتملك الآن بقوة على حياة الناس، وتُحكم قبضتها بإقتدار على مشاعرهم ، وترسل إلى أذهانهم بمخططات سوداء، فتلون حياتهم كلها بدخان خانق وتطلق عليهم سحابات من الكراهية والحقد. ويندرج الغضب من مجرد الإنفعال بالألفاظ الصاخبة، والصوت العالي، حتى يصل إلى ذروته عندما يقوم الشخص الثائر بالقضاء على حياة الشخص المغضوب عليه.. وهنا نتذكر جريمة القتل الأولى في تاريخ البشرية، عندما قام واحد من أبناء آدم على اخيه فقتله.. فافتتح سجل جرائم الإنتقام والثأر، التي أصبح الناس يلحقونها ببعضهم البعض على مر الأجيال.
فما هي محركات الانتقام الحقيقية؟
–
المحرك الأول للإنتقام هو رد الفعل السريع: فكثيرًا ما يندفع البعض لرد الإساءة وكرد فعل سريع ومباشر لما وجه إليهم. فيكون الإنتقام عمل ارتجالي، لا تشارك فيه العقول.
–
المحرك الثاني للإنتقام هو الغضب: ويأتي هذا الغضب نتيجة الانفعال، فلا يعط فرصة للتروي والتعقل وحساب الأسباب والنتائج، فيأتي الإنتقام عاريًا من الحكمة والمنطق.
–
المحرك الثالث للإنتقام هو سيطرة روح العنف: وقد انتشر العنف في كثير من بلاد العالم لأسباب اقتصادية، أو تربوية، أو أخلاقية، أو سياسية… إلخ لكن النتيجة هي سقوط الناس تحت سيطرة روح البطش، والتعطش للتخريب والقتل. وهذه الروح التي تتملك الناس تجد فرصتها عند أي احتكاك بسيط للتحول إلى اعمال انتقامية دامية.
–
المحرك الرابع هو الفقر الروحي: وهو في الحقيقة أهم العوامل وأولها. فالإنسان الروحي دائمًا يتسامى فوق الخلافات، ويرتفع فوق الضغائن، ولا يستجيب للاستثارة. فإذا غابت الحياة الروحية قويت روح الانتقام وسادت.
هل الانتقام هو الحل؟
الانتقام لا يحل مشكلة ولا ينهي موقفًا.لأنه أولاً لا يعيد ما ضاع فالذي ينتقم بمن أساء إليه، لا يسترد بإنتقامه ما ضاع. ففي جرائم الثأر مثلاً، فإن مقتل ضحية جديدة لا ترد الحياة للضحيةالأولى، ولا تعيد ما كان.كما يفتح الإنتقام مزيداً من الجروح: فالإنتقام مثل إلقاء الزيت على النار المشتعلة، تزيدها إشتعالًا، وتوسع رقعتها. وفي المقابل الإنتقام أيضا يقضي تماماً على راحة البال والسلام الداخلي: فالذي ينتقم من عدوه لا يكون أقل انزعاجاًممن يقع عليه الإنتقام. ففي اللحظة التي يحقق فيها غرضه، تبدأ مخاوفه واضطرابه وقلقه من الخطر القادم.
وأخيراً الإنتقام المباشر هو استبعاد لعدالة الله. فالمنتقمون الذين يريدون الإنتقام بوسائلهم الخاصة، لا تشبعهم أحكام القضاء المدني، فيستبعدونه لعدم كفايته حسب اعتقادهم! ولكنهم في ذات الوقت يستبعدون عدالة الله التي لا تخطىء أبدًا. وفي اللحظة التي ينتقمون فيها لأنفسهم يغلقون الباب أمام العدلالإلهي! وهي خسارة حقيقية.
عوامل تساعدنا على الغفران
حين تهدأ ثورة غضبنا ممن يسيئون إلينا ، فقد نفكر في الغفران والتسامح .وبالرغم من صعوبة الغفران، وبالرغم من الميل الطبيعيللإنتقام، فإن هناك بعض العوامل التي قد تساعدنا على اتخاذ موقف إنساني أفضل:
– نحاول أن نجد عذرًا لمن أساء إلينا: فربما يكون قد أساء إلينا تحت ظروف نفسية قاسية، أو يكون قد خدعه أحد ونقل إليه معلومات خاطئة عنا.
– لنهزم كبرياءنا: نتذكرإننا بشر ككل البشر، ُنصيب وُنخطىء. وربما أخطأت إلى آخرين وأسأت إليهم من قبل بأكثر مما أُسيءإليك! تذكر أنه كان من الممكن أن تفعل ما فعله الطرف الآخر لوأنكما تبادلتما الظروف والمواقع! اذكر أنك لست بلا خطأ، فلا ترجم الخطاء بحجر.
– لنغيّر فكرنا عن التسامح: لا تظن أن التسامح ضعف، فالتسامح دليل نضج، ووعي، وضبط للنفس، وقوة إرادة، واتساع أفق، ونظرة شمولية للحياة. إن الإنتقام هو سقوط في شبكة الذات، أما الغفران فهو انطلاقة فوق الذات. لذلك فالمظلوم حين يغفر للظالم، يكون أكثر منه قوة، وأرفع منه شأناً.
والأن كيف نغفر للآخرين زلاتهم؟.
في بداية الأمر علينا أن نفصل بين الفعل عن الفاعل لتنظر إلى مهاجمك بإسلوب جديد، كمريض أو كمحتاج.ومن ثم لندع الماضي يمضي، فلا يمكن إعادة كتابة الصفحة التي طواها الماضي. لكن يمكنك أن توقف استعادة شريط ذكرياته، فتكسر قوة الماضي عليك، وبعدها تستطيع أن تبدأ كتابة فصل جديد… ويكون النسيان علامة الشفاء.
استمر في محاولاتك ولا تستسلم للشعور بالمرارة والألم من المسيء إليك .لأن التسامح والغفران هما وسيلتك ووسيلة أيإنسان، يعاني من الإساءة إليه، إلى أن يكون أقوى وأكرم وأكثر سعادة من الشخص المعتدي المسيء.
دعوتنا اليوم هي البحث عن السلام الحقيقي :
السلام ليس الاستسلام أو اللافعالية أو السلبية. السلام ليس هوالإنسحاب: فلكي تعيش في سلام حقيقي لابد أن يكون السلام فيك سلاما ًحياً.. وليس سلاماً ميتاً يتمثل في التراجع خارج المسئولية.. وفي الانغلاق في جمود بلا معنى.فعلينا أن نكون صناع سلام، وصانع السلام هو شخص يتمتع بالسلام مع الله ومع نفسه ومع الآخرين. وصانع السلام هو شخص يتوق دائماً إلى أن يعيش في سلام، ويبحث دائماً عن كيفية إسعاد الآخرين، وجعلهم يتمتعون بهذا السلام.
كما أن صانع السلام هو شخص يساعد أو يعلّم من حوله صناعة السلام، ومن ثم يجعلهم يشتركون معه في أداء هذه الرسالة الجليلة وهو شخص يكرس كل طاقاته لمحاربة الخصام وإحلال السلام مكانه.
صانع السلام يحتاج إلى أن يكون مستمعاً جيداً، فالاستماع الجيد يعطي الفرصة للشخص الذي أمامك أن يعبّر عن وجهة نظره بوضوح، وكذلك يساهم الاستماع بشكل كبير في فض روح النزاعوإزالة الحواجز، التي كثيرًا ما تقف بين الأفراد لتعوق صفو العلاقات. وعلى الأغلب جميعنا نميل إلى أن نتحدث ونعبّر عن وجهة نظرنا دون الاستماع للآخرين. وسواء كنت مُستمعًا جيدًا أو مستمعًا غير جيد، فأنت تحتاج إلى تنمية هذه الموهبة في حياتك بشكل مستمر.
صانع السلام لا يعامل الشر بالشر: يجب أن يتعلم صانع السلامأن يرد بالخير ومهما بدا الخير بأنه حل سلبي وضعيف إلا إنه غالباًما يفوز في النهاية. وبالطبع ليس من السهل علينا أن نتخلى عن طبيعتنا الدفاعية وأن نقابل الشر بالخير، ولكن كلما فعلنا ذلك فإننا غالبًا ما نتمتع بشرف الإنتصار، وكذلك النمو في جوانب كثيرة من شخصيتنا.
صانع السلام يجب أن يكون قادراً على الإعتذار والغفران: ويجب أن يكون الغفران قراراً إرادياً واعياً داعياً للسلام، ومن ثم تتبعه المشاعر. ويجب أن يكون الغفران نابعًا من الداخل، وإلا كان مجرد نفاق.
فالسبب الحقيقي وراء ضياع السلام هو إننا نبحث عن السلام حيث لا يوجد.فالسلام ليس شيئًا ماديًا، ولا وثيقة مكتوبة، ولا معاهدات دولية أو اتفاقيات عسكرية. السلام قيمة روحية من جوهر الله. ولأن الله روح، فالسلام روح.السلام وجود إلهي عميق، يولد في داخل القلب، فيهب الطمأنينة والسكون والراحة والثقة. وهو لا يرتكز على الظروف المتغيرة، بل يرتفع فوق تقلبات الحياة، لأن ضامنه هو الله والله وحده.
الناس يصنعون سلامًا كأوراق الشجر، تهزها الريح وتحملها العواصف، لكن السلام الإلهي ثابت كالصخر، لأن ركائزه ليست من هذا العالم المضطرب.
هذا الوقت ليس وقت تبادل الاتهامات ولا هو وقت رشق الأسهم هذا الوقت هو قت النظر للأمام وليس للخلف بل للمستقبل معتبرين الماضي ولا ننغلق فيه ليكون لدينا رؤيا نحيا لأجلها في المستقبل.