دعهم يأخذون الدفء و المعاطف .. يغتالون جسدك و الطمأنينة .. و في الليل تحوّل حلماً ..رؤيا..صوتاً..صدىً.. و اسكن في الريح .. اطلق خفقانك فى الشرق و الغرب و الشمال و الجنوب …طالعا من جسد الأرض..عابراً في الصنوبر ..ماراً فوق جراح البشر ..
و انهي رقصة الموت الأخيرة ساقطا في حفرتك الضيقة.. لا تتأوه .. فموتك ولادة لتاريخ الدم و رأسك الذبيح رفعة لوطن ستظل رايته ترف رغم انف الكارهين .. انها مشاعر ” حمصية ” من القصير بحمص المدينة السورية العريقة التى حاصرها الارهابيون .. و مارسوا بها الفظائع.. مشاعر فى رثاء الجندى الذبيح الذى قيدوه و قطعوا راسه.. انه من الجيش السورى النظامى .. و تم نشر الصور و الفيديو فى تهديد مباشر لكل من يؤيد بشار و نظامه.
بحثت عن اهل القصير الحمصية لاسمع شهادتهم .. و تجولت فى بيوت النازحين من الفقراء .. و الذين قدمت لهم الكنيسة الكاثوليكية و السريانية فى زحلة اللبنانية المساعدات .. زحلة عاصمة الكثلكة فى الشرق كما يسميها البعض تقع على الحدود الشمالية الشرقية بين لبنان و سوريا .. لم يكن الوضع فيها كما يصوره البعض من ارتياح للاجئين فروا من جحيم الاقتتال الى تواكل اللجوء .. ليحيوا عالة على مساعدات شعوب اخرى .. ابدا لم يكن الوضع كذلك .. بل طفحت منه مرارة المعاناة و ضيق ذات اليد .. و انكسار النفس تحت مذلة العوز .. بطالة الرجال .. دموع النساء .. حرمان الصغار .. كان هذا حال اللاجئين من مسيحييى سوريا و الذى لم يختلف بالايجاب – إلا قليلا – عن لاجئى المخيمات .
اصطحبتنى راشيل داغر – احدى العاملات فى حقل مساعدات اللاجئين من سوريا الى لبنان – الى بيت متواضع اعلى صخرة ..على سلم ضيق من الحديد هناك صعدنا .. قالت راشيل :” فى الشتاء لا يمكن لسكان هذا المنزل الخروج مطلقا .. فالثلج يحيط بهم .. يحبسهم بعد أن نفتهم الحروب الى خارج بلادهم .. وصلنا الى الباب و كانت جوليانا فى انتظارنا .. انها من عائلة معروفة جدا فى القصير- احدى مدن محافظة حمص بالقرب من حدود جوسية التى تفصل بين لبنان و سوريا – تركت جوليانا بلدتها و خرجت مع اسرتها و لم تعد .. اقامت فى زحلة هى و عائلة زوجها المكونة من 16 فردا فى غرفة و احدة .. ستة اشهر من البرد و الضيق و عسرالحال .
تروى جوليانا قائلة :” منذ عام و نصف العام كان الجيش النظامى يصنع الحواجز على الطرق .. صوت الرصاص يسد اذاننا طوال الوقت .. فجأة اشتبك الجيش الحر مع اللجان الشعبية .. نادى شيوخ الجوامع التابعة للمسلحين ..أمروا بانزال المسيحيين من اهل القصير الى الشوارع تحت دعوى اننا نؤيد النظام .. قتلوا من قتلوه .. و اختطفوا من اختطفوه ثم طلبوا عنه فدية.. حتى من سددنا عنه الفدية اخذوه ثم قتلوه .. و من لم يدفع وضعوا كفن و قنينة عطر على باب بيت عائلته فى اشارة ان الابن لن يعود و صار فيه القتل .
اهتزت دمعتان فى عينى جوليانا لم تفرا بل صمدتا امام ابنيها الذين جلسا على مقربة منا يراقبان مشاعرها و هى تروى فى أسى :” لم نغدر بهم اذ كانوا يختبئون فى بيوتنا حينما كان يجول جيش بشار باحثا عنهم .. لكنهم غدروا بنا بعدما انضمت اليهم كتائب من كل الجنسيات .. حولت سوريا لارض جهاد و مسيحييها و علوييها الى كفار.. صاروا يمارسون الفظائع فى الجنود التى يأسرونهم .. و للامانة ليس المسيحيين فقط و انما كل من ناصر النظام كانت تتم تصفيته .. سواء مسلمين سنة او شيعة او اى طائفة ..
تلتقط جوليانا انفاسها لتعرب عن اسفها عما يتم اتهام الجيش السورى النظامى به من قصف للمديين فتقول :” البيوت التى يقصفها الجيش هى بيوتنا الخاوية التى توغلوا فيها و استولوا عليها.. فالجيش لم يكن يضرب المسلحين الا بعد تفريغ الطرقات من المدنيين .. و اطلاق التنبيهات عبر مكبرات الصوت مرات و مرات .. و للاسف لم يثر ابدا فى الاعلام ان النظام كان يطلب من المدنيين الخروج من المناطق التى استولى عليها المسلحين لتطهيرها .. بينما لم يقترب من المدن التى اتخذ فيها المسلحون من المدنييين دروعا بشرية يختبئون خلفها .”.
كتائب الفاروق هزمت القصير
من منزل جوليانا الى حوش يقطن به “بسمان” و عائلته .. انه رجل ممن فروا من بلدة القصير.. المكان يخلو من اى مظهر للحياة .. لا يوجد سوى حوائط و سجاد ينام فوقه الجميع لا يختلف عن المخيم فى شىء الا اربعة حوائط تضم تلك الاجساد المنفية خارج حدود الوطن .. و روى بسمان حكايته قائلا :” كنت اعمل تاجر.. حينما بدأت موجات المعارضة و تازم الوضع بالقصير .. تشكلت ما تسمى بكتائب الفاروق .. استجلبت عناصر من خارج سوريا حتى سقطت منطقة باب عمرو .. دامت معركتها شهرين بين جيش بشار و كتائب الفاروق .. كان الجيش يتمركز بمواقعه و لا يفعل الا اطلاق النار للتفريق بالهواء عبر مسافات .. صارت القصير مثل خزان للارهابيين و السلاح .. ثم بدأ الهجوم على مراكز الجيش التى تماسكت فترة بعدها بدأت بالرد الامر الذى دفع كتائب الفاروق للاحتماء بالمدنيين .. فاستشهد عدد كبير منهم .”
احنى الرجل رأسه و فرك كلتا يديه مسترسلا :” لم يكن لدى اختيار الا ان اخرج مجبرا على ترك وطنى .. 15 رجل من عائلتى قتلوا على ايدى المسلحين .. و اختطف عشرة اخرين .. فضلا عن حرق البيوت المسيحية و محالهم … وصلنا لمرحلة انه لا يمكن الخروج من البيت ولا حتى لشراء الغذاء .. لا نعلم من ينتظرنا بالخارج حتى لو خرجنا للهروب..
ذات نهار انطلقت وولدى فى مشوار .. حاولنا العودة الى منزلنا لم نتمكن القصف اشتد .. مات جارى امام عينى .. المشهد مرعب .. خشيت مثل طفلى تماما .. انتشلته حملته على كتفى .. ولدى عمره سبع سنوات .. اندفعت كالمجنون تغوص قدماى فى جثث الاهل و الاصدقاء .. صرنا نخطو فوق اجسادهم الممزقة .. نفوت على البيوت .. نقفز فوق الحوائط حتى نصل الى اى شارع ننفذ منه الى بيتنا .. فى نفس اليوم خرجنا فارغى الايدى لا نحمل الا اولادنا فقط نجونا بهم من جحيم الارهاب .”
يتوقف بسمان مغمضا عينيه فى ألم يستعيد ما جرى ثم يكمل :” ليس لدى شىء ضد الاسلام ولا حتى ضد الاخوان ولا استطيع ان اسكن فى بلد ما به مسلم لكن هناك فرق بين الاسلام و بين ما يحدث فى سوريا فما يحدث تجارة و مافيا لاسقاط الدولة .. فهناك مسلمين من السنة .. مظلومين اكثر من المسيحيين من قبل العقول التكفيرية القاعدية المأجورة باسم الدين .. ستجدينهم حينما تذهبين الى المخيمات على الحدود .”.
من دار بسمان الى مكتب قيادة دينية سريانية كانت جولة اخرى و لم يبغى ذكر اسمه ايضا مشيرا الى ان هناك مطرانين و 12 راهبة مختطفين فكيف له ان يذكر اسمه موضحا :” فى زحلة لسنا بعيدين عن اياديهم ففى لبنان كل يوم تفجير جديد على ايادى الارهابيين و سيارات مفخخة يتم تفكيكها بالقرب منا .” اما عن اوضاع اللاجئين المسيحيين فيقول :”
هناك تعاونا بين السريان و بين كل الطوائف المسيحية لتتم خدمة كافة اللاجئين .. الكنيسة السريانية كونت لجنة لمتابعة ملف النازحين تعطى لكل اسرة بدل ايجار بلبنان .. و كوننا قاعدة بيانات لنعرف اين تسكن عائلات اللاجئين .. يتراوح البدل ما بين 150 الى 200 دولار .. استوعبنا اعداد من الطلاب بالمدارس و خصم حوالى 80 % من قيمة الاقساط بالمدارس .. الكنيسة دفعت جزء منها و أمنت من خلال المؤسسات الانسانية ما تبقى .. اما مدارس الدولة فمجانية لكن من المستحيل ان تستوعب كل الاعداد فالخاص يخصم 50 % من المصروفات لكن يجب دفع الباقى .
ايضا تمنح الكنيسة بدل تدفئة .. حوالى 200 دولار كل شتاء ..و تغطى حاجات الاسر التى لجأت اليها سواء من المسيحيين او المسلمين .. كما تذهب و تمنح مساعدات للمخيمات .. اما اعداد الاسر المسيحية التى تتلقى مساعدات فى زحلة فهى حوالى 280 عائلة تقريبا .. متوسط اربع افراد .. تستطيع الكنيسة تغطية نفقات اكثر من ذلك .. و اغلب العائلات نزحت الى زحلة ” ترانزيت ” لتؤمن سفر ها الى اروبا .. و جزء من هذه العائلات جاء منذ سنة و سافر .. و جزء اخر يستعد للسفر عبر الامم المتحدة ومنها عبر طرق شرعية او غير شرعية ..
تركت جملة اللاجئين و اجريت اتصالا بصحفى سورى هرب الى تركيا اذ كان يدعم المعارضة .. عبر الانترنت تحدثت اليه عن حمص و القصير فقال فى اسى :” حمص الجميلة تحولت الى خراب وقعت بين عند نظام كان فاسدا فتحول الى قاتلا .. وبين ارهابييى الدول الطامعة .. ليس فقط المسيحييون هم المحاصرون فاهلى هناك محاصرون منذ شهور .. وانا هنا فى تركيا خرجت هاربا من وجه النظام و من وجه المسلحين ايضا لاننى اقول الحقيقة ولا سواها .. و ها انا لا استطيع حتى ان اذكر اسمى بعدما كان يوضع فوق صفحات الجرائد و على برامج التوك شو .. النظام فاسد و المعارضة فاسدة و الارض خلت للارهاب .. المارضة و النظام تحولوا لابواق لا وجود لها الا فى الاعلام .. أما على الأرض فلا لاعبين إلا داعش و النصرة و الجيش الحر و غيرها من الكتائب المسلحة المدعومة باموال و اجندات لا علاقة لها بصالح الوطن السورى .. فى البداية لم يكن هناك اضطهادا للمسيحيين ابدا .. لكن بتحول الوضع الى اراض جهاد صارت سورا و حمص المحاصرة تحديدا ارض تنكيل بكل من يختلف و المناخ معد لاشعال الفتن الطائفية التى ما كان لها مكان بسوريا .. لكن احلم اننى يوما ما ساعود الى حمص مدينتى الجميلة انا او ابنائى فادعو لنا لا تتصوروا أن المعارضين فرحين بما يجرى المعارضين الحقيقيين ما عاد لهم وجود بالوطن صرنا كلنا لاجئون خشية بطش الطرفين المتصارعين على السلطة .