في مطلع العام الجديد ومع ميلاد السيد المسيح لم يجد الملائكة أنشودة ًأجمل من هذه الأنشودة للتعبير عن فرحة السماء وفرح الأرض ، وعن رسالة السيد المسيح فرنموا منشدين قائلين : ” المجد لله في العُلى وعلى الأرض السلام وللناس المسرة .
إن الغاية من ميلاد السيد المسيح كانت وما زالت توطيد قواعد السلام بين الإنسان وربه ، وبين الإنسان ونفسه ، وبين الإنسان وأخيه الإنسان مهما كان جنسه ولونه ومعتقده ودينه ، لأننا كلنا من صنع الله ومن يديه المقدستين جبلنا وأصبحنا نفساً حية . ولهذا قال البابا القديس لاوون ” ميلاد المسيح ميلاد سلام “
ولد المسيح ليوطد السلام بين الإنسان وربه :
تعلمنا العقيدة المسيحية أن الإنسان ، بعد الخطيئة الأولى التي دفعته بكبريئه إلى ارتكابها ، أصبح في حالة خصام مع الله . لقد أغضب ربه وخالقه بكبريائه وعصيانه وتمرده فطُرد من النعيم ولصقت به اللعنة وأُغلق في وجهه باب السماء . وما كان بمقدور الإنسان أن يستغفر الله ويسترضيه ، وهو المخلوق الحقير ؛
لإن إهانة الله أكبر من أن يكفّر عنها بقواه الشخصية الضعيفة . ذلك أن الإهانة تكون على قدر الشخص المهان . وليست إهانة عظيم من عظماء الدنيا كإهانة صعلوك من صعاليكها . وعندما تكون الإهانة موجّهة لإله فائق القدرة ، غير متناه في العظمة ، فأنى للإنسان ، مهما ارتفع شأنه ، أن يُكفّر عنها ؟
وأشفق الله على الإنسان فوعده بمخلّص . وأتى هذا المخلص ليُعيد السلام بين الله والإنسان ، وليرفع الإنسان إلى مقامه الأول الذي أضاعه بمعصيته وخطاياه ؛ وتجسّٓد وأصبح بشراً ليؤله الإنسان كما عبّر عن ذلك القديس اوغسطينوس فقال :” تأنس الله
، ليؤله الإنسان “. ويوضح القديس اوغسطينوس ذلك فيقول :” كان الإنسان بعيداً عن الله ، والله بعيداً مترفعاً جداً عن الإنسان ، فقام بين الإثنين وسيط هو الإله الإنسان : ” السيد المسيح ” . وهكذا أصبح السيد المسيح رسول سلام بين الإنسان وربه. وأصبح وحده الوسيط بين الله والناس كما علّم القديس بولس موضحاً ذلك عندما قال : ” لأن الله واحد ، والوسيط بين الله والناس واحد ، ألا وهو المسيح يسوع الإنسان الذي جاد بنفسه فدى لجميع الناس ” ( بولس إلى طيموتاوس ٢:٥-٦).
ولد المسيح ليوطد السلام بين الإنسان ونفسه :
وتعلمنا العقيدة المسيحية ايضاً أن هذه المعصية الأولى التي جعلت الإنسان في حالة عداوة مع ربه ، جعلته في حالة حرب داخلية مع نفسه . فأصبح ، كما يقول بولس الرسول مغلقاً على نفسه لا يفعل الخير الذي يريده ،ويفعل الشر الذي لا يريده
( روما ٧:١٩) . لقد أفقدته الخطيئة زمام نفسه ، فلم يعد يقوى على ضبط أهوائه والسيطرة عليها وراح يتوهم الخير حيث لا يلقى إلاّ الشرّ .
وتوهم أن السعادة قائمة على الأنانية وحب الذات ، فأصبح لا يُفكر إلا بنفسه ولا يهمه من دنياه إلا مصالحه الشخصية ،
وأخذ يعمل في سبيل تحقيقها ، الضمير والدين والعدالة ، فداس شرائع الله ، وتنكّر لوصاياه ، واستباح محرّماته ، وسعى وراء غاياته فاستسلم لمحبة المال والجاه العالمي والأمجاد الباطلة ، ولكنه يلقى بالمقابل إلا القلق والاضراب .
وولد السيد المسيح عن عظمته الإلهية واختار الفقر وشظف العيش ليرشد الإنسان إلى السلام ويعلمه أن السلام الباطني لا يقوم إلا على التجرد والكفر بالذات وبالأمجاد الباطلة ، وعلى الاستسلام لإرادة الله . لهذا اتخذ السيد المسيح صورة العبد بعد أن تجرد من ذاته ( فيليبي ٢:٧) ، ليخلصنا .
وتوهّم الإنسان ايضاً أن السعادة قائمة على القوة والجبروت وتوسيع النفوذ والسيطرة وبسط السلطان ودفع الأموال لتخريب البلاد وهدم الإنسان ….. وبدأ يؤله نفسه من دون الله . وقد عبّر أندره جيد ، الكاتب الملحد ، عما يجول في أفكار الكثيرين من أبناء هذا العصر فقال : ” إني أكون قد أتيت مأثرة كبرى ، إذا ما انتزعت الله عن المذبح ونصّبت الإنسان مكانه ” .
وهناك ملايين من الملحدين يحاولون أن ينتزعوا الله من المذابح ليقيموا الإنسان مقامه . وهكذا بدلاً من أن يُقدِّم الإنسان واجب الخضوع والعبادة لربه ، إذا به يُقدّم هذا الواجب لنفسه ، فيحرق البخور لجماله ، وغنائه ، وذكائه ، وعلمه ،ومقدرته ، وعنفه ، وقوة سيطرته على الآخرين . ولكن هذه الكبرياء ما كانت إلاّ إلاّ لتولّد في نفس الإنسان القلق والإضراب والوهم .
وولد السيد المسيح ، وهو الإله الذي دحا الأرض ونصب عمد السماء ، في مغارة حقيرة في بيت لحم ، وقضى حياته ولا مكان له يسند إليه رأسه ( متى ٨ : ٢٠ ) ، كما قال عن نفسه ، فعاش فقيراً لا شأن له ولا قدر ظاهراً بين الناس وديعاً متواضعاً ، ليعلم الإنسان أن السلام الباطني لا يقوم إلا بالقناعة والاستسلام لإرادة ومشيئة الله .
ولد السيد المسيح ليوطد السلام بين الإنسان وأخيه الإنسان :
تعلمنا العقيدة المسيحية أخيراً أن الخطيئة ولّدت في نفس الإنسان البغض والحقد والكراهية والحسد لأخيه الإنسان . ولذا نرى الكتاب المقدس يُحدثنا في أول صفحاته عن مقتل هابيل بيد أخيه قايين . وما زالت هذه القصة المفجعة تتكرَّر في كل يوم هنا أو هناك في بلاد الله الواسعة ، ومع الأسف نعيشها اليوم في بلادنا العربية تحت اسم الله والدين والكتب السماوية ، ولكن كل هذا منهم برّاء .
لقد مرّت على البشرية حروب طاحنة سالت فيها الدماء غزيرة. وذهبت ضحيتها ملايين من الرجال وانساء والشباب والأطفال الأبرياء ، وساد الاعتقاد بعدها أن السلم استتبّ ، ولكن يا لخيبة الأمل ، ما أن تنتهي حرب حتى تشتعل نار حرب أشد عنفاً وقساوةً و وحشنيةً من الأولى ، وحتى اليوم ، وفي بلادنا العربية مهد الأنبياء والمرسلين ، وفي شرقنا العزيز الذي منه ولد السلام ، لا تزال الدماء تراق في ساحات القتال ، والرؤوس تُقطع ، والفتيات تُغتصب ، والمنازل والمتاحف تُسرق ، والمطارنة والرهبان والراهبات ورجال ونساء وايتام يُختطفون ، وأجسام شبان وشابات في ربيع العمر تتعرى وتتشوه وتُحرق ، والأشلاء تتساقط والآثارات والمتاحف والمباني تنهدم ، والحضارات تبيد ، فتذهب جميعا طعمة الحديد والنار والإبادة …
اليوم نعيش حروب باردة وحروب أفكار وحروب أموال وحروب إذاعية وتلفزيونية ، حروب عبر الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية وغيرها من وسائل الاعلام ، كلها تهدد بانفجار شامل ، ولذلك لا سلم بين الإنسان وأخيه الإنسان ما دامت القلوب قاسية وخالية من المحبة .
ولد السيد المسيح ليوطد السلام بين الناس والشعوب والأمم ، بين بعضنا البعض . أحب الإنسان حتى بذل نفسه في سبيله ،
وهو الذي قال : ” ما من حُبٍ أعظم من حُب من يبذُل نفسه في سبيل أحبائه ، ( يوحنا ١٥ : ١٢ ) .
ولد السيد المسيح ليُعلّم الناس أجمعين أن السلم الحقيقي لا تمليه المعاهدات والوثائق وألاعيب السياسة ، دون النظر إلى العدالة والحرية والصدق والعمل على تطوير الشعوب والافراد على العيش المشترك وقبول الآخر مهما كان دينه ومعتقده وثقافته .
ولد السيد المسيح اليوم ليقول لنا : ” أحبوا بعضكم بعضاً . كما أحببتكم ، أحبوا أنتم أيضاً بعضكم بعضاً ، ( يوحنا ١٣ : ٢٤ ).
ولد المسيح ليكون لنا أمثولة في التضحية والمحبة ، وليعلمنا على الإقتداء بمثله ، فلا نتلهَّب عطشاًإلى عظمة نبنيها على أشلاء الضمير ، ولا نذوب شوقاً إلى غنى نطلبه على حساب الجياع والعطاش والعراة والفقراء . ولِد ليُعلٍّم الناس أن لا سلام إلا في إحترام الضعيف ونبذ العنف والبغض ومراعاة العدالة . لهذا كان وحده بإمكانه أن يقول : ” السلام أستودعكم وسلامي أمنحكم ، لا أمنحكم إياه كما يمنحه العالم ، فلا تضرب قلوبكم ولا تفزع ” ( يوحنا ١٤ : ٣٧). وقال أيضاً : ” طوبى لصانعي السلام ، فإنهم أبناء الله يدعون ” ( متى ٥ : ٩).
أحبائي ، لنعمل على توطيد السلام بيننا وبين الله ونفوسنا والناس ، منشدين في يوم ميلاد السلام ، مع الملائكة ومحبي السلام أصحاب الإرادة والنوايا الصالحة الأنشودة الخالدة : ” المجد لله في العُلى وعلى الأرض السلام وللناس المسرة ” ( لوقا ٢ : ١٤ ).