منذ يناير 2011 ونحن نعيش حالة سياسية استثنائية بدأت بتفاؤل مفرط وإنتهت بالتشاؤم وعدم اليقين. وما بين التشاؤم والتفاؤل ثمة مسارات عشوائية أصبحت فيها السياسة الشئ وضده، فهى كل شئ وهى أيضا لا شئ، نظنها الحل وهى المشكلة، ونحسبها الحرية وفيها سلب الحرية.
ومع ذلك، فبالنسبة لعشاق السياسةومريديها، فقد بدا ما نحن فيه فرصة للوجود وإثبات الذاتأوالوصول إلى مكانة ما كأفراد وجماعات. ومع كامل الاحترام للعديد ممن أرادوا إصلاح السياسة، إلا أن الساحة بدت وكانهامولد فيه ما يكفى من الدراويش وأصحاب الكرامات السياسةوالمهرجين والنصابين. وهكذا بدأ موسم الهجرة إلى السياسة،فامتلأت الساحات بحشود مبهمة، واعتلى المنصات أصحاب الكرامة والدروايش والمهرجين فى مشهد أبرز ما فيه هو الهستيريا، والعنف، والضحالة الفكرية والقليل من العقل والحكمة. وفى حين ابتعد كثيرون عن زحام المولد، فإن الكثير من التابعين الذين يؤمنون بأصحاب الكرامات السياسية، أدمنوا الزحام والهستيريا.
وهذا عن السياسة، فماذا عن الأشياء الأخرى؟ وأقصد بالأشياء الأخرى تلك التى لا تبدو ذات أهمية كالعلم والفنون والإبداع الفنى والمهنى والإنسانى. صحيح أن السياسة تتحكم فى كل هذه الأمور،أو على الأقل تبدو الأمور هكذا، ولكن حقيقى أيضا أن تطور المجتمعات وتقدمها يعتمد على هذه الأشياء الأخرى، وهى أيضاتسهم بصورة أساسية فى صياغة شكل التعبير السياسى ومضمونه. والمشكلة لدينا أن السياسة بشكل عام فى حالة عداء مع العلم والفنون والإبداع. وهذه المسألة ليست جديدة لأن سمةسياستنا أنها تتغذى على الأوهام والمصالح الضيقة وتعيش فيها وبها. و لولا فقرنا فى مجالات التنمية والعلم والابداع، لما كانت أشكال التعبير السياسى كما نراها الآن. ومن ناحية أخرى فإنهذه الأشياء الأخرى لا تنمو وتتطور فى الشوارع والميادين، بل هى نتاج مؤسسات. والسياسة التى نراها ونعيشها تملأ الشوارع والميادين، ولكنها تعانى نوعا من اليتم المؤسسى.
وفى الحقيقة أن إهدار البعد المؤسسى لما يسمى “الثورات العربية”، لم يثر الإنتباه، فما رأيناه هو رغبة عارمة فى هدم مؤسسات (هى فى واقع الأمر بالية)، ولو أن إرادة الهدم إرتبطت بإرادة البناء لكانت مشروعة. لكن ما رأيناه هو الهدم والمزيد من الهدم، ولم يتم بناء مؤسسة واحدة فى أى مجال من المجالات، ولا أعنى مجرد البناء بالمعنى المادى، ففكرة وإرادة البناء ذاتها غير واردة. ولو نلاحظ، فقبل الثورة كان لدينا بوادر حركات من أجل الإصلاح المؤسسى فى القضاء والجامعة والنقابات وغيرها، وربما نقول أنها كانت حركات واعدة، ولكن بعد الثورة ونصب المولد السياسى، فغالبية رموز هذه الحركات تركوا رسالتهم الإصلاحية والتحقوا بعهد الكرامات السياسية، فمنهم من أصبح خبيرا، أو زعيما أو مرشحا رئاسيا أو أحد نجوم الإعلام. وبدأ موسم الهجرة للسياسية، فهجر الحالمون مؤسساتهم بأوهام الثورة التى ستصلح كل شئ انطلاقا من السياسية، فحصدنا “اللاشئ”.
وأزعم أن السياسة بشكلها الحالى لن تصلح شيئا، لأن هى ما تحتاج إلى إصلاح، وحتى يتم هذا فلا بديل عن ظهور حركات تعنى بالأشياء الأخرى المنسية فى التنمية والعلم والإبداع لأنها شروط رقى المجتمعات وعقلنة السياسة. إن المعركة الفعلية الآن ليستمجرد صراع بين قوى مدنية وقوى دينية، فهذا التصنيف يفقد بريقه وربما مشروعيته، كما أن الكثير ممن هاجروا إلى السياسية سيكتشفون ان هجرتهم كانت هجرة غير شرعية. إن المعركة الفعلية هى بين التنمية والعلم والإبداع من ناحية فى مواجهة أشكال التعبير السياسى التى نراها الآن بغض النظر عن هوية أصحاب الكرامات السياسية.