مثل أى مبدع صادق وعَى الأديب مكاوى سعيد بحقيقة أنّ الغوص فى أعماق البشر، يجب أنْ تسبق قراءة الكتب. وقد ساعده ذاك الوعى على أنْ تختزن ذاكرته الانطباعات التى ترسّبتْ داخل وجدانه بمن تعرّف عليهم (حتى ولو كان تعارفــًا عابرًا) مثل الأطفال البؤساء الذين شاء سوء حظهم أنْ يولدوا فى أسر طاردة بسبب الفقر
والذين تـُطلق عليهم الثقافة السائدة البائسة التعبير غير الدقيق (أطفال الشوارع) مثل الطفل الذى تعرّف عليه حين كان عمره 12سنة وكان أحد شخصيات روايته (تغريدة البجعة) وتمر السنوات ، يكبر الطفل وكأنّ الزمن لم يتحرك ، فلا يزال يشم المخدر الذى ابتكره التعساء (الكـُلة) وعندما طلبه برنامج تليفزيونى أخذ رأى مكاوى سعيد : أطلب إيه ؟ فلما قال له : أطلب شقة من المحافظة بدل النوم على الرصيف ، بان عليه الذعر وخاف أنْ يُلبوا طلبه. وكان انطباع المؤلف ((وكأنى اقترحتُ عليه أنْ يطلب منهم سجنــًا)) ويبدو أنّ ذاك البائس هو وجميع البؤساء أمثاله، صنع وجدانهم معنى للحرية مُتخيلا وصدّقوه : الأماكن المغلقة تقتل الحرية. لأنّ ذاك المعنى المُتخيّل للحرية تكرّر مع (وردة) التى أدخلها البعض جمعية مُتخصصة فى رعاية الأطفال البؤساء ، عندما رأوها تنام على الرصيف . فكان تصرفها أنْ ((تقضى اليوم فى دار الإصلاح تستحم وتأكل وعند منتصف الليل تقفز من السور وتعود إلى فرشتها الفقيرة على الرصيف)) وعندما سألها المؤلف عن سبب هروبها من الغرفة النظيفة قالت إنّ ((الجدران تخنقها والنوم على الأرض يمنع عنها الكوابيس وأنها تحب الحرية ولا تطيق أنْ ينهرها أحد)) وردة (16سنة) زوجة لبائس مثلها حملتْ منه. وعند لحظة الوضع لم تستعن بأحد مثلها مثل القطط وحرصتْ على طفلها وحرسته مثل أى قطة.
رأيتُ أنْ تكون وردة وزوجها مدخلى للكتابة عن كتاب الأديب مكاوى سعيد (أحوال العباد) الصادر عن دار (ن) للنشر- عام 2013. فالمؤلف يلتقط أشكال الفن الشعبى التى أبدعها الأميون مثل الحاوى والساحر والأراجوز. فيلتقى ب (عم محمد) الذى تجاوز عمره الثمانين فكتب عنه بعد أنْ ((انتهتْ حياة آخر أراجوز بمصر)) حكى عم محمد أنه أثناء الاحتلال الإنجليزى صنع تمثالا خشبيًا لعسكرى إنجليزى وجعل الأراجوز يضربه. وكان يتمنى أنْ يستضيفه أى برنامج تليفزيونى ليقول للمسئولين ((أنا موش عاوز فلوس. بس موش عاوز مهنتى تنتهى . أنا ورثتها عن والدى وعمرى 18سنة. ووصانى أسلم الصفاره (التى تـُساعده لإخراج صوت الأراجوز) لحد بيحب المهنة. دلوقتى ح أموت وموش لاقى حد أسلمها له)) عم محمد الذى ألقى المؤلف عليه الضوء، ذكـّرنى بما كتبه أ. مهدى الحسينى عندما ألقتْ وزارة الداخلية فى الستينات (( القبض على الفنانين الشعبيين ولاعبى السيرك الجائلين وفنانى الأراجوز بتهمة التسول. وامتلأ عنبر(ج) فى سجن مصر القديمة بهؤلاء الفنانين الموهوبين . وأنشأتْ الدولة معتقلا للأراجوز فى ميدان العتبة)) (مجلة فصول- خريف92) أما (عم عبد التواب) فهو (مبدع) فى (فن الخداع) فلأنه يعيش وحيدًا بعد أنْ تجاوز السبعين تملكه وسواس الخوف من اللصوص، فابتكر خدعة طريفة : اشترى لوحة عليها صورة لكلب شرس وبجوارها كلمات ((احترس من الكلب)) وثبّتْ اللوحة فى أعلى الباب. ولكى يُتقن الخدعة اشترى CD عليه صوت نباح كلب شرس. وبعد ثورة ينايرشارك الأهالى فى اللجان الشعبية. وحكى عن ((كلبه الوهمى)) فضحكوا وضحك . والمدهش فى حكايته أنه اشترى كلبًا ليكون نديم وحدته ومسدس صوت.
أما شخصية (فكرية) الخادمة فى منزل الشاعر الكبير مأمون الشناوى ، ومدمنة (كودافين) وكانت لأسرة الشاعر كلبة تسبّبت فى (عكننة) فكرية كلما خرجتْ بها للترويح عنها ، تطارها كلاب الشوارع ، فيكون نصيب فكرية بعض الجروح. فماذا تفعل؟ بمجرد خروجها من العمارة تعطى الكلبة جرعات من الكودافين فتنام . ثم تحملها وتتمشى بها فى الشوارع . وفى يوم شعرتْ بالتعب فجلستْ على الرصيف ووضعت الكلبة على حجرها وغطتها بطرحتها. ظنها الناس أنها تشحتْ فوضعوا النقود فى حجرها. وعندما استيقظت فكرية ووجدتْ النقود فقرّرتْ أنْ تستمر فى اللعبة التى لم تـُخطط لها. ولكنها فى يوم (بخلتْ) على الكلبة وأعطتها جرعة صغيرة. استيقظتْ الكلبة سريعًا (لضآلة الجرعة) فى اللحظة التى مدّتْ سيدة يدها لتضع النقود. أزاحتْ الكلبة الطرحة وعضّتْ كف السيدة. وفى قسم الشرطة أعلنتْ فكرية توبتها عن (تمشية الكلاب) وعن تعاطى الكودافين وبالتالى عن الشحاتة.
وعن ظاهرة التدين الشكلى رصد المؤلف واقعة المأذون الذى طلب رشوة مقابل الحصول على شهادة تحليل دم للعروسيْن دون ذهابهما إلى معمل تحاليل وزارة الصحة. ولكنه عندما علم أنّ العروسة مطلقة بآلية ( الخـُلع ) انتفض مذعورًا وصاح (( الخـُلع ليس طلاقــًا. هذا مخالف للشرع )) وقال للعروسة (( أحذرك أنتِ مازلتِ فى ذمة زوجك والزواج مرة ثانية معناه أنك تجمعين بين زوجيْن. فاتقى الله)) ثم ردّ مبلغ الرشوة. يطلب منها أنْ ((تتقى الله)) رغم أنّ القانون أسّس الخلع على أسانيد شرعية. ورغم صدور حكم المحكمة ، بينما هو لا يعترف بتقوى الله وهو يقبل الرشوة. وإذا كان هذا المأذون لا يعمل بالسياسة ، فإنّ الأصوليين الإسلاميين الذين أدانوا الديمقراطية فى كتاباتهم بإعتبارها ((رجس من عمل الشيطان)) انتهزوا ثورة يناير وسطوا عليها ودخلوا البرلمان بلعبة الديمقراطية. وهذا ما عالجه المؤلف فى فصل (ملعب النخبة) حيث تطرق لأدعياء الليبرالية : فمنهم من قاطع الانتخابات ومنهم من جرى خلف غنائم رخيصة. ومنهم من راهن على المسيحيين أو الصوفيين. وبينما الأصوليون بقيادة الإخوان يحرقون الكنائس ويقتلون المسيحيين ويطردونهم من قراهم ، فإنّ العقل الحر لا يُفرّق بين مسيحى ومسلم لأنّ المعيار لديه الانتماء للوطن والدفاع عنه ، لذا كان المؤلف موفقــًا عندما خصّص فصلا عن (باقى زكى يوسف) الضابط (الشاب) فى سلاح المهندسين الذى اقترح تحطيم خط بارليف بالمياه. وشرح لقائده أنّ أثر الماء أقوى من المفرقعات والألغام وأسرع وأوفر. وكانت النتيجة أنْ تمكن سلاح المهندسين من تدمير خط بارليف وعمل ثغرات فيه ، مكنت قواتنا من العبور فى أقل من أربع ساعات بدلا من 12ساعة. ولم يفقد جيشنا غير78شهيدًا بعد أنْ كانت التقديرات تتوقع أنّ عددهم لن يقل عن 16 ألف شهيد. فهل فكر(باقى زكى يوسف) فى ديانته (المسيحية) وهو يتقدم باقتراحه أم كان (كل) تفكيره فى تحريرالوطن؟ لذا فإننى أعتب على المتعلمين المصريين الذين يستخدمون تعبير (عنصرىْ الأمة) لأننا شعب واحد ولسنا شعبيْن وأبناء ثقافة قومية واحدة.
وفى فصل بديع عَقــَدَ المؤلف مقارنة بين التعليم فى طفولته والتعليم بعد تدهوره منذ سنوات. فى الماضى كانت الدروس الخصوصية دليل فشل المدرسة. والكتب (الخارجية) إهانة لكتب الوزارة، لذا فإنّ هاتيْن الظاهرتيْن لم تظهرا إلاّ مع بداية السبعينيات دون أدنى مقاومة من المسئولين. أما عن علاقة المدرسين بالتلاميذ فهى انعكاس للظاهرتين السابقتين. فى الماضى علاقة احترام من جانب التلاميذ وعلاقة حب من جانب المدرسين، تحوّلتْ مع منظومة الفساد إلى علاقة عبودية من جانب المدرسين لإله (المال) وإلى رعب لأولياء الأمور الفقراء. وما ذكره المؤلف عن التعليم فى الماضى عشته أنا فى الأربعينات، فكنتُ أحب المدرسين وأحترمهم. ورغم مرور السنين أتذكر أ. فخرى الذى رآنى فى الشارع فاقترب منى ونصحنى بالذهاب إلى البيت ومراجعة الدروس بدل ((تضييع الوقت)) وأذكر لهجته الحميمية المتواضعة كأنه أبى. ولعلّ تلك الروح كانت امتدادًا لروح جدودنا فقد عثر علماء الآثار على بردية كتبها المدرس على (لوحة) التلميذ قال له فيها ((لقد بلغنى أنك أهملتَ دراستك. وأنك تتسكع فى الطريق . إنّ مثلك مثل المجداف المحطم. أنظر إلىّ عندما كنتُ صبيًا مثلك. لقد مكثتُ فى المعبد ثلاثة شهور لا أخرج منه. وعندما خرجتُ تفوقتُ على زملائى فى العلم . فافعل ما قلتُ لك))
وفى فصل ممتع كتب عن الفرق بين سينما (زمان) قبل يوليو52وسينما (المقاولات) التى انتشرتْ منذ السبعينات. فألقى الضوء على فيلم (المليونير) بطولة إسماعيل ياسين الذى أدى فيه دورًا مزدوجًا : (المليونير) عاصم الإسترلينى و(المونولوجست) جزر الذى حلّ محل المليونير فى قصره مع زوجته. وكانت رسالة الفيلم أنّ (جزر) رفض معاشرة زوجة المليونير. وكانت رسالة بليغة تـُكرّس لقيمة إنسانية نبيلة بعدم استغلال الظروف ، حيث كانت الزوجة تعتقد أنه زوجها نظرًا للتشابه بين الإثنين. هذا غير المتعة الفنية والكوميديا الراقية. وفى المشاهد الأولى نعلم أنّ الجنيه المصرى كان يساوى خمسة دولارات ، إذْ عندما سأل المليونير عن راتب جزر قال (ريال) فى اليوم فردّ المليونير باستهانة ((يعنى دولار) علمًا بأنّ الفيلم انتاج سنة1950. والفيلم إخراج حلمى رفلة وكتب قصته الشاعر الكبير مأمون الشناوى الذى ترك فرصة كتابة الأغانى للفنان أبو السعود الإبيارى.
وعن منظومة الفساد كتب عن المخرج السينمائى الذى سُرقتْ سيارته فاتصل به أحد العاملين فى (مافيا) سرقة السيارات ، فاستردّ سيارته مقابل عشرة آلاف جنيه. أما التطور الدراماتيكى فى الموضوع فجاء فى نهاية تلك الواقعة الحقيقية، إذْ عندما أوقفته لجنة مرور، قال المخرج للضابط ((أنا مبلغ عن سرقة السيارة)) فسأله الضابط ((إنت دفعتْ كام عشان ترجع لك؟)) فلما أخبره بالمبلغ قال الضابط لزميله ((شفت يا هيثم بيه. الأستاذ دفع عشرة آلاف جنيه ورجعتْ له الدايو موديل 2011وإنت دفعتْ عشرين ألف جنيه عشان ترجع لك الدايو2010)) وإذا كانت المهن تخصصات فاللصوص أيضا ليسوا تخصصات فقط ، وإنما (درجات) منهم من يسرق حبل غسيل ومنهم من يسرق وطن ، وهو ما عالجه المؤلف فى فصل بديع بعنوان (يا سارق من عينى النوم) وأشار إلى بلاغة شعبنا فى تعبيراته الإبداعية. فالسرقة تكون فى الأشياء المادية. فكيف صاغ الشاعر الجميل فتحى قورة ذاك التعبير فى الأغنية التى غنتها الفنانة القديرة شادية ؟ لقد استلهم المعنى من التعبيرالشعبى الذى أبدعه الأميون عندما وصفوا قدرة ومهارة البعض فى السرقة بأنه (يسرق الكحل من العين) وهو تعبيربلاغى ربما لايخطرعلى بال المبدعين من شعراء وروائيين. أما عن كباراللصوص الذين يستغلون مناصبهم لسرقة (الوطن) فإنهم يفعلون ذلك عن اقتناع بعدم اعترافهم بمعنى ومدلول (الوطن) خاصة لوكانوا من الأصوليين لأنّ كلمة وطن فى قواميس اللغة العربية تعنى (مرقد الغنم) كما كتب المؤلف وكما وردتْ فى مختار الصحـّاح- ص 753)
وكما كتب عن البؤساء الذين أطلق الإعلام عليهم التعبير غير العلمى (أطفال الشوارع) كتب عن البؤساء الذين يظلون فى (الظل) خلف الصفوف فى كل المهن وأشهرهم (الكومبارس) فى مجال الفن الحركى وهو ما عالجه المؤلف فى فصل (ناس وكرتون) لدرجة أنّ أحد المنتجين استعان بعدد من الكومبارس لتصوير مشهد فى مطعم فاخر، فوضع أمامهم طعامًا من البلاستيك. وكما كتب عن أدعياء (الثقافة) كتب فصلا مهمًا عن عميد الثقافة المصرية (طه حسين) الأعمى الذى أنار طريق المبصرين. مكاوى سعيد أطلق عينيه بوجدان إنسانى على من تعرّف عليهم من البشر، فأبدع كتابًا يستحق القراءة. وصدق العالم الكبير جيمس فريزر صاحب (موسوعة الغصن الذهبى) فى قوله الحكيم ((بدون لمسات الخيال الشاعرى ، يصعب علينا تعمق مشاعر الناس))