قد يكون ما أكتبه اليوم تحصيل حاصل أو تسجيل رأي للتاريخ إذا كانت لجنة الخمسين قد حسمت نهائيا الجدل حول مجلس الشوري -بقاء أو إلغاء- لكني أردت أن أوضح بعض الحقائق المتصلة بالبرلمان ذي المجلسين لأن ما يثار تبريرا للتخلص من مجلس الشوري بدعوي أنه مجرد إهدار للوقت والمال وهو تبرير سطحي يعوزه التأني والتعمق.
مبدأ إيجاد غرفة ثانية للبرلمان لم يكن في الأصل يستهدف خلق منتدي للثرثرة السياسية أو مركز للدراسات -ففي تلك الحالة تصدق مقولة أننا في غني عن إهدار الوقت والمال في ذلك الصدد- لكن كما نشأت فكرة مجلس الشوري تحت مسمي مجلس شوري القوانين فإن وجوده طالما ارتبط بالتشريع والقوانين, وبينما ينزع البعض إلي اعتبار دوره في ذلك مكملا وتابعا للغرفة الأولي للبرلمان -سواء كانت مجلس الأمة أو مجلس الشعب أو أي مسمي آخر- يري البعض الآخر أنه يلعب دورا أساسيا في دراسة ومراجعة مشروعات القوانين المحالة إليه من الغرفة الأولي فإذا وافق عليها يتم إصدارها, أما إذا رأي ما يشوبها من عوار أعادها إلي الغرفة الأولي لاستيفاء النقص أو العوار حتي تصدر القوانين جيدة الطهي.
في هذا السياق يري من يدافعون عن الحاجة إلي مجلس الشوري أنه يلعب دور صمام الأمان التشريعي في حياتنا البرلمانية لأنه يضمن وجود الرأي الثاني أو الرأي الآخر أو خط الرجعة قبل الاندفاع في إصدار القوانين… ولعلنا في هذا البلد ندرك أكثر من غيرنا مغبة التسرع في إصدار القوانين -ولنا في ذلك ميراث متعدد الجوانب- حيث أدي جموح الأنظمة السابقة وحكوماتها وما تميزت به من صلف وغرور السلطة إلي إصدار قوانين متسرعة أو جائرة أو غير متوافقة مع الدستور, فكانت النتيجة الطعن عليها بعدم الدستورية -وسقوطها والعدول عنها, لكن بعد أن كان قد تم العمل بها وبالتبعية الإضرار بحقوق المواطنين وبمعايير المساواة والمواطنة فيما بينهم.
وإذا تحدثنا عن عدم الدستورية في القوانين فهناك مأزق يلزم تدبره في إطار الحديث عن مصير مجلس الشوري, وهو مبدأ المراجعة الدستورية وهل تكون سابقة علي صدور القانون أم لاحقة له, ولأنه من المرجح أن يتم ترسيخ مبدأ المراجعة الدستورية اللاحقة لصدور القانون, هنا تبرز أهمية أخري لمجلس الشوري كصمام أمان تشريعي يضمن التروي والتأني في دراسة القانون وتنقيحه من شبهة عدم الدستورية.
نقطة أخري مهمة يجب أن نعيها جيدا وهي أننا مقبلون علي إعادة تشكيل المعايير الخاصة بتشكيل الحكومة بحيث يتولي ذلك الحزب الحاصل علي الأغلبية البرلمانية -أو الائتلاف البرلماني المستحوذ علي الأغلبية- وهنا تنشأ شبهة خضوع التشريع للأجندة السياسية أو التوجه الخاص بذلك الحزب أو الائتلاف, الأمر الذي يهدد باحتمال اختطاف التشريع من جانب الأغلبية البرلمانية وهو ما اختبرناه بكل قسوته ووجهه القبيح علي يد نظام حكم محمد مرسي وجماعته وعشيرته, لذلك يجب أن يكون في التشكيل البرلماني مجلس ثان -أي مجلس الشوري- ليكبح جماح وجموح أي أغلبية برلمانية وقتية تسول لها نفسها أن تختطف التشريع بعيدا عما يحقق صالح جميع المواطنين ويضمن كامل حقوقهم والمساواة بينهم.
من هذا المنطلق أري مزايا عديدة لبقاء مجلس الشوري ذي السلطات التشريعية وليس مجلس الشوري الزخرفي المنزوع السلطات, ومن هذا المنطلق أيضا تبرز الحاجة إلي صياغة معايير مختلفة لعضوية مجلس الشوري عن تلك الحاكمة لعضوية مجلس النواب, فإذا كان الترقي لعضوية مجلس النواب يعتمد إلي درجة كبيرة علي مكانة المرشح في الشارع أو الحزب أو الأسرة أو القبيلة أو العشيرة والتي علي أساسها يستمد ثقله الانتخابي ومقومات فوزه بالمقعد البرلماني فليس بالضرورة بناء علي ذلك أن يمتلك ذلك النوع من النواب البرلمانيين الخبرة أو القدرة علي تدبر سبل صياغة القوانين بحيث تخلو من العوار… وبالتالي فإنه علي الجانب الآخر إذا نجحنا في إعلاء معايير أخري للتأهل لعضوية مجلس الشوري مثل رفع حد السن أو اشتراط خبرة دراسية وتخصصية أو امتلاك رصيد معترف به في مجالات العمل القانوني والتشريعي, فإننا نكون قد نجحنا في إرسال شرائح من أصحاب القامات العالية وذوي العقول الراجحة الحكيمة المؤهلة للقيام بدور صمام الأمان التشريعي في حياتنا البرلمانية.
وفي ذلك السياق نفسه لا يمكن أن نغض النظر عن مبدأ التوسع في منح رئيس الجمهورية الحق في تعيين ثلث أعضاء مجلس الشوري -والذي يقابله حق تعيين عشرة أعضاء فقط في مجلس النواب- فبينما لا يوجد ضرر من سحب هذا الحق من رئيس الجمهورية فيما يخص مجلس النواب لأن العشرة المعينين لا تأثير يذكر لهم علي جموع النواب, يظل مبدأ توسيع هامش التعيين في مجلس الشوري مقبولا لضمان إرسال أصحاب الخبرات والقامات العالية إلي الشوري وهم الذين ينتمون غالبا إلي الشرائح التي تفتقر إلي عناصر ترجيحها من خلال صناديق الانتخاب.
لهذه الأسباب أسجل تأييدي لمبدأ البرلمان ذي الغرفتين -مثل بعض الدول العريقة في الديمقراطية كإنجلترا التي تحتفظ بكل من مجلس العموم ومجلس اللوردات, وأمريكا التي تحتفظ بمجلس النواب ومجلس الشيوخ- فمجلس الشوري في البرلمان المصري إذا أعطي سلطات تشريعية سيكون إضافة حقه ولن يكون عبئا… وأرجو أن يغفر لي القراء إذا كان الأمر قد حسم أصلا في لجنة الخمسين عند نشر هذا المقال.