عظة السيد المسيح على الجبل ، دُعيت بحق شرعة الدين المسيحي ، وقد حرص فيها السيد المسيح على التأكيد أنه ما أتى لينقض الشريعة ، بل ليكمَلها
وهذا ما نريد أن نتأمله ونفهمه ونعيشه موضحين أن السيد المسيح أتمَ الناموس ودعا الناس إلى إتمامه ، واليوم يدعونا نحن ابناء هذا العصر إلى العمل به وإتمامه ، ولكنه تخطَى ، في الوقت عينه ، الحرف منه إلى الروح ، فكانت الشريعة معه وبتعاليمه لا حرفاً يُميت بل روحاً يُحيي .
1 – السيد المسيح أتمَ الشريعة :
قد يظن البعض أن السيد المسيح أراد أن يخرج على الشريعة ويقوَض أركانها , وهذا ظن في غير محله . ذلك أن السيد المسيح ، وإن حمل على الفريسسن الذين أفرغوا الشريعة من معناها ، فقد حافظ على هذه الشريعة بالذات فأحب الهيكل ، وثار على الذين ينتهكون حرمته يوم طرد الباعة منه ( مرقس 11 : 16 ) ، واعترف بقدسية الذبائح التي تقدَم فيه
( متى 5 : 23 – 24 ) ، حين دعا إلى مصالحة الخصم قبل تقدمة القربان والذبيحة ، وما كان ليخاصم الفريسيين حباً بالخصام ، لكنه أطاعهم يوم دعوه إلى ترك الجليل اتقء ، لشر هيرودس الذي كان يتربص به ( لوقا 13 : 31 ) ، وأقرَ ما فرضوه من عشور تناولت النعنع والشَمرة والكمون ، ولو عاب عليهم خروجهم على قواعد العدالة ( متى 23 : 23 ) ،ودعا الناس إلى أن يعملوا بأقوالهم ولا يفعلوا أفعالهم ( متى 23 : 1 – 3 ) ، ولبَى دعواتهم إلى زيارة بيوتهم و تناول الطعام على موائدهم ( لوقا 7 : 46 و 11 :37 و14 : 1 ) .
2 – ودعا إلى إتمام الشريعة :
أمر السيد المسيح الأبرص بعد أن شفاه ، بإتمام ما تفرضه الشريعة ( متى 8 : 4 ) ، وأوجب على الشاب الغنيَ التقيد بالوصايا كما وردت في الناموس ( متى 19 : 15 ) ، وبين في مثل الغنيَ ولعازر الفقير أن الشريعة والأنبياء يعربان عن إرادة الله ويكفيان لمن اتبعهما وعمل بأوامرهما لإرشاده إلى الطريق الصحيح ( لوقا 16 : 29 – 31 ) ، ولكنه بالرغم من ذلك كان وفياً لروح الشريعة فأعلن أنه نور وهدى ، لا قيد ونير ، ولذلك قال أن السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت ( مرقس 2 : 27 ) .
3 – الشريعة كانت حرفاً :
سما السيد المسيح بهذه الشريعة في درجات الكمال حتى نفذ إلى مطلوبها ، فتعمَق في روحها وفهم غايتها فرمى في كل عمل إلى ما يكمن وراءه من نيَة ، ورمى في كل نيَة إلى ما تتضمنه من محبة . لذلك لم يسنَ شرائع جديدة ، لكنه جلا القديمة منها على حقائقها ، فإذا الشريعة القديمة تنهي عن القتل ” لا تقتل ” ، أما يسوع فينهي عن نيَة الإساءة وإغضاب القريب ( متى 5 : 21 – 24 ) ، والشريعة القديمة تنهي عن الزنى ، أما هو فينهي عن كل نظرة سوء ، وشهوة القلب
( متى 5 : 27 – 28 ) ، والشريعة تنهي عن الحلف ، أما هو فينهي عن الحلف بالسماء عرش الله وبالأرض موطىء قدميه وبالرأس الذي لا نقدر أن نجعل شعرة منه بيضاء أو سوداء ( متى 5 : 33 – 37 ) ، وإذا هي تنهي عن الثأر ، أما هو فيأمر بالتمنع عن ردَ السيئة بسيئة مثلها ( متى 5 : 38 – 42 )، وإذا هي تأمر بمصادقة من يصادقنا ومعاداة من يعادينا ، وأما هو فيأمر بمحبة الأعداء والمضطهدين ( متى 5 : 43 – 48 ) ، وهكذا لم يحلَ الشريعة ولكنه أتمَها ، فأصبح مصدرها : ” المحبة ” .
4 – أصبحت الشريعة روحاً :
هكذا أصبحت النيَة مركز الشريعة لا العمل الخارجي ، فإذا كان الإنسان صالحاً أتى كالشجرة بثمار صالحة ( متى 7 : 15 – 20 ) ، وأصبح مقياس الصلاح الإستسلام لإرادة الله الذي يرى الخطايا ويجازي علانيةً ، وما عادت تفيد صدقة تجلب على صاحبها المديح ، وصلاة تخنق روحها الثرثرة ، وصوم يكسو الوجه برقعاً من جهامة ، فخير الصدقة عندما تكون سرَاً ، وخير الصلاة عندما تكون في مخدع ، وخير الصوم عندما يكون صاحبه مدهون الرأس مغسول الوجه ، غير عابسِ وحزين ( متى 6 : :4 و 6 : 18 ) ، وهكذا سقطت التقاليد البالية التي لاتنفذ إلى باطن الإنسان . والباطن منبع الشر ومصدر السوء وقد قال السيد المسيح : ” ان ما ينجس الإنسان لا ما يدخل فمه ، بل ما يخرج من فمه :
الأفكار الرديئة والقتل والزنى والفجور والسرقة وشهادة الزور والتجديف ( متى 15 : 1 – 20 ) .
فالضمير هو ما ينجَس الإنسان ويطهَره ، وليس الشريعة كشريعة . فلا يكفي أن ]يحظر القتل والزنى والسرقة إنما يجب أن يهاجم الداء في مكمنه الداخلي ، ويسأصل من جذوره ، لذلك يجب أن نذهب حتى إلى القلب فنملأه بمحبة الله والقريب . وهاتان المحبتان مختصر الوصايا والشرائع ( متى 22 : 40 ) ومعاملة الناس بمثل ما نريد أن يعاملونا به ، هي القاعدة الذهبية التي يجب أن نمشي عليها لنرضي الله والضمير ( متى 7 : 12 ) ، فلا نريد لأحد إلاَ ما نريده لنفوسنا من الخير ، فنصدق الناس القول ونبادلهم المساعدة ونصفح عن الإساءة ولا نضمر الأذية ولا نتكبر ولا نتعجرف بما نقوم به من أعمال برَ وإحسان ، وهكذا نكون قد تسامينا بالوصية إلى ينابيعها الفوارة والمليئة بالمحبة .
وهكذا تصبح المحبة الشاملة الكاملة المقياس الذي يجب أن نعتمده في أعمالنا على حدَ ما قال السيد المسيح ” أعطوا تعطوا ستُعطون في أحضانكم كيلاً حسناً مركوناً ” ( لوقا 6 : 38 ) . وهو مقياس يبقى فوق طاقة الطبيعة البشرية الضعيفة ، فلا يقوى الإنسان إعتماده إذا لم يتَكل على نعمة ربه ، وجعل السيد المسيح مثاله الأعلى الذي ما أمرنا بوصية إلاَ ومارسها ومشى عليها وعبَد لنا الطريق التي تمكننا من أن نتأثر خطاه فيها .
اللهمَ ، أعنا على افتقاء خُطاك والتقيد بوصاياك ، فلا نتخذها حرفاً يُميت بل روحاً يحيي حتى نصل إليك انت ينبوع الحياة الأبدية .