هناك سؤال تتم إثارته بين الحين والآخر، على صفحات الجرائد والمجلات وفي عدد من وسائل الإعلام، واللقاءات والمنتديات الثقافية أيضاً، وربما في بعض الجلسات الخاصة، يدور السؤال حول أهمية التاريخ ومغزى دراسته والاهتمام بآثاره سواء في مراحل التعليم المختلفة أو من خلال إصدارات المطابع ودور النشر وفعاليات المؤسسات الثقافية.
وفي اعتقادنا أن قراءة التاريخ ودراسته بمثابة واجب قومي لأسباب عدة، أولاً: التاريخ مُعلم للإنسان: إذ منه يستقي الإنسان الكثير من الحكم والمواعظ والعبرات. حيث يحفل التاريخ بالكثير من المواقف والحوادث، التي ينبغي التوقف عندها بمزيد من التأمل العميق والتحليل الدقيق والقراءة المتأنية. كما يزخر التاريخ أيضاً بالكثير من الرؤى والأفكار المهمة التي أنتجها مثقفون ومفكرون عاشوا حياتهم في خدمة رسالة التحديث والتنوير، فكانت لهم رؤى وأفكار تستحق منا أن نستعيدها ونقرأها بكثير من الاهتمام. فالتاريخ، بمواقفه وأحداثه ورؤاه وأفكاره، ليس فقط رصداً لأحداث الماضي ولكنه أيضاً يمس الحاضر الذي نعيشه، كما يمثل نافذة على المستقبل الذي سوف نعيشه أو على الأقل سوف يعيشه البعض منا. ومن هنا فإنه يمكن الاستفادة من حوادث التاريخ القريب والبعيد على حد سواء بهدف الاستفادة من تجارب الماضي في تحسين واقع الحاضر والتطلع إلى مستقبل أفضل وأكثر إشراقاً.
ثانياً: التاريخ وتحقيق التواصل بين الأجيال: فحين يقرأ الفرد منا حوادث التاريخ فإنه يتعرف على ذاكرة الوطن الذي يعيش حاضره، مما يُساهم ذلك في تشكيل الذاكرة الجمعية للمواطنين الذين يمثلون بدورهم الجماعة الوطنية. ولنضرب هنا مثلاً بالشباب المصري الذين يعيشون الآن فإنهم لم يعيشوا ثورة سنة 1919م، ولكنهم حين يقرءون عن تلك الثورة وأحداثها فإنهم يتعرفون على فترة مهمة من تاريخ الحركة الوطنية المصرية ونضالها، ويعايشون معاني كثيرة في مقدمتها قيمة (الوحدة الوطنية) التي جمعت بين أبناء الوطن الواحد بغض النظر عن الدين أو النوع أو أي اختلاف آخر، كما يعرفون أيضاً كيف شاركت المرأة المصرية الرجل المصري فيسبيل تحقيق الاستقلال، فضلاً عن دور الطلاب والعمال والموظفين وغيرهم من مكونات الجماعة الوطنية المصرية آنذاك. وكثيرون أيضاً لم يعيشوا انتصارات السادس من أكتوبر عام 1973م، إلا أن هؤلاء وحين يدرسون أو يقرءون عن هذا الحدث في كتب التاريخ فإنهم يستطيعون معايشة هذا الانتصار عن قرب ليتعرفوا على الكثير من قصص وبطولات الآباء والأجداد لاسترداد الأرض المغتصبة وتحقيق السلام العادل.
ثالثاً: التاريخ والانتماء: تُساهم قراءة التاريخ في تأكيد قيمة الانتماء للوطن من خلال قراءة المواقف والأحداث والشخصيات التي برزت في سماء الحركة الوطنية، في مقدمتهم رفاعة الطهطاوي وميخائيل عبد السيد وأحمد عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول وهدى شعراوي وغيرهم كثيرين.
رابعاً: استعادة التاريخ: يحمل التاريخ، وعلى وجه الخصوص في بعض الأوقات التي تشهد أزمات واضطرابات مجتمعية شتى، رداً مناسباً وعلاجاً ملائماً، إذ يمثل استعادة التاريخ، رؤاه وأحداثه ومواقفه وشخصياته، أحد طرق العلاج والحل، وهو ما يعني عندنا ضرورة استعادة التاريخ واستلهامه واستدعاء رموزه من التنويريين والمُصلحين وإبرازهم كقدوة أمام الجميع، وهو الاتجاه الذي يناصره عدد من أساتذة التاريخ والمؤرخين.
وأذكر هنا على سبيل المثال ما يذهب إليه المفكر الراحل الأستاذ أبو سيف يوسف في دراسته الرائدة (الأقباط والقومية العربية) من أن ثورة سنة 1919م “مازالت تشكل في التراث التاريخي المشترك أحد الأطر المرجعية الرئيسية التي تتم استعادتها كلما وقعت أزمة في العلاقة بين القبط والمسلمين”. وهناك دراسة متميزة أعدها الدكتور محمد عفيفي- أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة القاهرة- عنوانها (الدين والسياسة في مصر المعاصرة)، تتناول شخصية القمص سرجيوس (1883- 1964م)، الكاهن القبطي الشهير وخطيب ثورة سنة 1919م، حيث يوضح الدكتور عفيفيفي دراسته كيف أنه يتم استدعاء شخصية القمص سرجيوس بين الحين والآخر للتأكيد على معنى الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط وبالأخص كلما تقع أحداث طائفية هنا أو هناك.
واليوم ما أحوجنا إلى إنعاش الذاكرة الجمعية الوطنية بقراءة التاريخ، وحفظ آثار الآباء والأجداد، من أجل الحاضر والمستقبل، لأنه وحسب المثل المصريالشائع “من فات قديمه تاه”. كما كان الشيخ الجليل العلامة محمد عبده (1849- 1905م) مُحقاً حين استوعب أهمية التاريخ وفائدته إذ ذهب إلى أن قراءة التاريخ واجب من الواجبات الدينية المقدسة. كما نذكر أيضاً ما قاله الدكتور حسن عثمان في كتابه الرائد (منهج البحث التاريخي)، من أنه “لا غنى للإنسان عن دراسة ماضيه باعتباره كائناً اجتماعياً. فينبغي عليه أن يعرف تاريخ تطوره وتاريخ أعماله وآثاره”. وحسب الدكتورة حكمت أبو زيد في كتابها (التاريخ تعليمه وتعلمه)، فإنه “طالما كان هنا حاضر، فلابد من أن يكون هناك ماضي ومستقبل. والتاريخ شجرة تحكي قصة هذه العناصر الزمنية، ماضيها جذورها الثابتة في الأرض، وحاضرها جذعها المنتصب، وفروعها الممتدة إلى السماء تحمل ثمار المستقبل”.