كانت المواجهات فى الماضى لها طبيعتها التى ربما تختلف عن المواجهات الآن. فقد كان الانتصار على الخصم وإلحاق الهزيمة به يرتبط بالقدرة على قهر هذا الخصم والتنكيل به. أما الآن فيبدو الأمر مختلفا، فالخصم لم يعد يتوارى فى ظلمات هزيمته، والمنتصر لم يعد فى مقدوره أن يفتخر بقدرته على التنكيل والقتل. ففى ظل أوضاع قانونية وإعلامية جديدة فإن القتلى يلاحقون قاتليهم إعلاميا وقانونيا. وعلى الرغم من أن هذه الوضعية لم تحد من عمليات القتل والتنكيل، إلا أنها فرضت شروطا جديدة لإدارة عمليات التنكيل بالخصوم. ومن ذلك العمل على إظهار أن الخصم يتحمل المسئولية عن هزيمته وعما يلحق به من خسائر. وبالمقابل فإن المهزوم يوظف خسائره لملاحقة المنتصر على أمل هزيمته أخلاقيا، وإذا سنحت الظروف، ملاحقته قضائيا. وهكذا فلم تعد معادلة القاتل والمقتول مجرد صورة لمعادلة النصر والهزيمة، بل ربما أقرب لمعادلة الجانى والضحية بالمعنى الأخلاقى والقانونى.
أقول هذا بمناسبة الصراع الدائر الآن فى مصر بين السلطة وجماعة الإخوان المسلمين. فلو أن مثل هذا الصراع حدث فى الماضى لكان من الممكن أن تنتهى الأمور بطريقة مختلفة، إما بسبب خوف الطرف الأضعف وإنسحابه من المواجهة بأقل الخسائر، وإما إقدام السلطة على فض الاعتصام بكافة الوسائل، والافتخار بتحقيق النصر. أما ما يحدث الان فهو مختلف، حيث أن استراتيجية الإخوان المسلمين بدت واضحة، وهى أنهم يريدون المزيد من الخسائر لإدانة السلطة أخلاقيا وقانونيا. وهم بهذا المعنى يريدون أن يصبحوا ضحايا لا لشئ إلا لأن هويتهم كضحايا ضرورية لبناء هوية الجانى. وبالتالى نزع المشروعية عن الطرف الأقوى بتحويله من منتصر إلى جانى.
ولأن التوازنات الداخلية، أو لنقل الاستقطاب الداخلى، بات واضحا، فإن استراتيجية الإخوان لا تخاطب غالبية المصريين ممن يرفضون حكم الإخوان من حيث المبدأ، ولكنها استراتيجية تسعى لمخاطبة أنصار الجماعة والغرب بالأساس. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تصوير الإخوان كضحايا، من خلال ثلاثة محاور: سياسى وجنائى وأخلاقى. فمن الناحية السياسية، يسعى الإخوان للتأكيد على أن رئيسهم كان ضحية مؤامرة، ومن الناحية الجنائية، فإنهم يحملون السلطة مسئولية عمليات القتل ليس فقط التى حدثت ولكن تلك التى ستحدث، ومن الناحية الأخلاقية، فإن الإخوان يصورون الأمر وكأنهم يتعرضون لحرب إبادة، أو أن المواجهات معهم هى حرب على الإسلام والمسلمين.
وإذا سلمنا بأن رئيسهم كان ضحية مؤامرة، فكونه أصبح ضحية يؤكد عدم قدرته على أن يكون رئيسا. وعلى ما يبدو أن رفض حكم الإخوان جاء لهذا السبب بالتحديد، أى عجز الرئيس عن إدارة شئون البلاد، وفشله فى أن يكون رئيسا لكل المصريين. وربما يكون محمد مرسى ضحية ولكنه لم يكن ضحية خصومه فقط، بل ضحية أنصاره أيضا. ومن الناحية الجنائية، فلا يمكن لى منصف أن يعارض إجراء تحقيقيات مستقلة وشفافة فى وقائع العنف والقتل ومعاقبة المسئولين. ومع ذلك فإن خطاب الإخوان لا يركز كثيرا على التحقيقيات أو العدالة الجنائية ووقف العنف، بقدر ما يبشر بمزيد من القتلى ومزيد من العنف، ولعل صورة الأطفال وهم يحملون أكفانا خير دليل على ذلك. فالموت بالنسبة لهم جزء من الإستراتيجية السياسية وأداة لتفعيل معادلة الجانى/الضحية.
وأخيرا، تأتى المسألة الأخلاقية، أى الزعم بأن ما يحدث هو مؤامرة للقضاء على الإسلام. ولكن لسوء حظ الإخوان أن أعدادا متزايدة باتت ترى أن المعركة سياسية بالأساس، وأنه قد آن الآوان لتحرير الدين من السياسة لأن التوظيف السياسى للدين، وما يرتبط به من تعصب وتكفير، لم يعد مقبولا من الناحية الأخلاقية.