صلاةُ أبانا الذي، ، هي الصلاةُ التي تعلّمناها منذُ صغرنا وصلّيناها في جميعِ المناسبات، للتسبيح أو للشكرِ أو لطلبِ حاجة. إنها الصلاةُ التي يتلوها المسيحيونَ معاً في القداس، كلَّ يومِ أحد، حتى أصبحت عادة. الخطر هو في أن تصبحَ صلاةُ أبانا الذي، ك”العِملةِ البالية”، التي فقدت قيمتها.
صلاةُ أبانا الذي، ، هي الصلاةُ التي تعلّمناها منذُ صغرنا وصلّيناها في جميعِ المناسبات، للتسبيح أو للشكرِ أو لطلبِ حاجة. إنها الصلاةُ التي يتلوها المسيحيونَ معاً في القداس، كلَّ يومِ أحد، حتى أصبحت عادة. الخطر هو في أن تصبحَ صلاةُ أبانا الذي، ك”العِملةِ البالية”، التي فقدت قيمتها.
تبدأُ هذه الصلاةُ بكلمةِ “أبانا”، التي تخاطب خبرةً ورِثها كلُّ إنسانٍ. كلُّ واحدٍ منّا هو ابنٌ لشخصٍ ما، فقد اختبرَ، بطريقةٍ ناجحةٍ أو فاشلة، خبرةَ الأبوّة/ الأمومة. وكثيرونَ أصبحوا بدورهم آباءَ أو أمهات. عندما نقولُ “أبانا” بطريقةٍ واعية إلى حدّ معيّن، نستذكرُ خبرتنا الخاصةَ في الأبوّة/ الأمومة، ونطبّق ذلك دون وعي على خبرتنا لأبوّة الله. لا شك أن خبراتنا عونٌ أكيد، وهي في نفس الوقت محدودة في حدّ ذاتها. فهنالكَ امكانيةُ انفتاحِنا على علاقةِ محبة، كما أن هنالكَ خطرُ حصر من نخاطبه في صلاتِنا ( الله) في حدودِ خبرتِنا الضيّقة. السؤال هو ” هل يمكن تطبيق خبرتنا البشرية كأبناء أو آباءَ وأمّهات على عالم الله؟
في هذه الخبرةِ الدينية، التي يحملها كلُّ البشر، هنالك إحساسُ أن الانسانِ مرتبطٌ بالله، أنه خليقتُه، وأنه استلمَ منه الحياةَ وأنه خاضع له. إنما يبقى السؤالُ مطروحاً: ماذا تعني كلمةُ “أبانا”؟ كانَ معاصرو يسوع يدعونَ الله “أباً” عندما كانوا في حاجةٍ لأن يطلبوا أمراً أو رحمة. بينما استعملَ يسوعُ كلمة خاصة فريدة من نوعها، إلى حدّ أن الإنجيليينَ شعروا بضرورةِ نقلها باللغةِ الآرامية التي نطقَ بها يسوع: أبّا. وهي كلمةٌ شائعةٌ، يتوجّه بها الأطفالُ إلى أبيهم، إلى “باباهم”. كانَ علماء اليهود يقولون: “عندما يبدأ الطفلُ بتذوّق القمح ( أي عندما يُفطم)، يتعلّم أن يقولَ “أبّا” و “إِيمّا” (بابا وماما)”.
عندما كان يسوعُ ينادي الله “بابا”، كان يعبّرُ عن شعوره بالعلاقة المميزة القائمة على المبادلة والحنان، التي تربطه بالآب. وليس من باب الصدفة أنَّ تكون جميعَ صلواتِ يسوع التي يرويها الأنجيليون تبتدئ بكلمة “أبّا”، باستثناءِ صرخته على الصليب: “إلهي، إلهي …”.
هنالكَ نصٌّ ، يكتَبه الإنجيليان اللذان ذكرا صلاة ” أبانا”، يساعدنا على الدخول في عُمق العلاقةِ القائمةِ بينَ يسوعَ وأبيه: “قد أولاني أبي كلَّ شيء، فما مِن أحدٍ يعرفُ مَن الابنُ إلاّ الآب، ولا مَنِ الآبُ إلاّ الابنُ ومَن شاءَ الابنُ أن يكشفَه له” (متى 27:11؛ لوقا 22:10). يشرحُ يسوعَ هنا العلاقة المتبادلة القائمة بينه وبينَ الآب، المحبة التي تربط بينهما. ومن الجدير بالملاحظة أنَّ يسوعَ يفهمُ حضورَ الآبِ من زاوية محدّدة: هو الذي منحني كلَّ شيء (“لقد أولاني كلَّ شيء”). إنَّ ما يميّزُ العلاقة ليسَت السلطةُ ولا ” الإنجاب الروحي”، بل عطاءُ كلِّ شيء، أي أن الآب أعطى ذاتَه كاملةً إلى الابن. وبالتالي، فلأنّه يُعطي فهو يعرف. يتعلّق الأمر هنا بالمعرفة العميقة المتأتية عن المحبة. ويسوعُ بدوره، بما أنه يتسلّمُ كلَّ شيءٍ منَ الآب ويأخذ ذاتَه منَ الآب، فهوَ يعرفُ الآب. من خلالِ هذا التكرار بالكلمات، يتمَّ شرحُ علاقةُ الأبوّةِ والبنوّةِ العميقة الموجودة بينَ الآبِ والابن، والوحدة الحميمة بينهما. تلك هي خبرة المحبة التي يعيشها الأطفالُ في العائلاتِ الشرقية. فالأب يعلّمُ الطفلَ الأمور الأكثرَ أهمية في الحياة، ويطلعه على أسرارِ الحياة، وعلى مضامين وصايا الله. يبدو أنَّ يسوعَ كانَ يفكّرُ في علاقته مع الآب من منطلق هذه المفاهيم التي تعبّر عن الاستعدادِ العميق والكامل لقبول كلِّ شيء.
ما هوَ مفاجئ ومؤثّر، هو أنَّ العلاقة بينَ الآبِ ويسوع ليست مغلقة، بل منفتحة. وفي قوله: “وإذا صليتم فقولوا: أبانا، ونادوا اللهَ أنتم أيضاً بلقب: “بابا”، فانَّ يسوعَ يُدخلنا في هذه العلاقةِ الفريدة والخاصة جدا، ويشركنا في خِبرته. هذا هو معنى الجزءِ الأخيرِ من النص المذكور: “ومَن شاءَ الابنُ أن يكشفه له”. كيف يمكن أن يحصل هذا؟ يقول القديس بولس أنَّ ما يجعلنا ندعو الله “أباً”، هي شهادةُ الروحِ القدس الساكنِ في قلوبنا.
“والدليلُ على كونكم أبناء أنَّ اللهَ أرسلَ روحَ ابنه إلى قلوبنا، الروح الذي يُنادي: “أبّا”، “يا أبتِ!” (غلاطية 6:4).
إنَّ عطيّة الله الشخصية، أي عطية الروح، تصبح داخليةً فينا، وتحرّر في داخلنا الدعاء البنوي: “أبّا”. فعندما يصبحُ حضورُ الأمِّ المحبّب عميقا، ويشعر به الطفلِ في داخله ومن خلالِ حركاتِ الحنان، عند ذلك يقول الطفل: بعفوية “ماما!” وهكذا نحن، من خلال حبَّ الله الذي ظهرَ للبشريةِ في شخصِ ابنه يسوع، وتغلغله في أعماق قلوبنا، نستطيعُ أن نصرخَ إلى الله “أبّا!”.
إنَّ ما يفتحه لنا يسوعُ بتلكَ الطريقة، وما يجعله في متناولِ أيدينا من خلال عطيةِ روحه، ليسَ فقط اسلوبٍاً للصلاة، بل أسلوبٌ للكيانِ والعيش. نحن أبناءُ الله! يقولها يوحنا بتعجّب: “أنظروا أيَّ محبةٍ خصّنا بها الآب لنُدعى أبناءَ الله وإننا نحنُ كذلك!” (1يوحنا 1:3).
هنالك أكثر من طريقة نشعرُ بها أننا ابناء الله. يمكن اعتبارَ الله أباً، فقط لأنه منحنا الحياة، لأنه وضعنا في العالم. يمكن النظر بالخصوص الى سلطَتَه، وكنتيجةٍ لذلك حمايتَه أيضا. يُفهمنا يسوعُ أنَّ نفسَ العلاقةِ التي تجمع بينه وبين الآب مفتوحةٌ لنا أيضاً: وهي ليست مجرّد علاقةُ خالقِ بخليقته، ولا علاقة ارتباط عضوي، بل علاقة محبةٍ وتبادلية. ليس اللهُ أباً فقط لأنه يلاحقنا، كونه منحنا الحياةَ ويمارس سلطةً علينا، بل بالأحرى لأنه أمامنا، يتقدّمُنا حتى نستطيعَ أن نعبّرَ عن إنسانيتِنا بشكل متكامل. نحن لا نعتمدُ عليه فحسب، لأن لا أحدٌ منا أتى الى الحياةِ بقرارهٍ الشخصي، بل لأننا في علاقةِ بنوّةٍ معه، لأنه قبلنَا بمجّانية، وأحبنا بحرية ووضعناَ في جوٍّ من الحرية والمسؤولية.
أن ندعو اللهَ أباً، هو بالتأكيدِ طريقةٌ جديدةٌ للصلاة، ولكنها – أكثر من ذلك – امكانيةُ حياةٍ جديدة، طريقةٌ جديدةٌ للعيش في العالم. ماذا يعني إذن، بالنسبةِ لحياتنا اليومية، أن نقولَ “أبّا”؟ هو إننا نحن مدعوونَ، في الصلاةِ والحياة، إلى أن نعيش في جوّ الفرح والاندهاش هذا: فحياتنا ليست متروكة للصُدفة ولا لل”قضاء والقدر”. نحنُ بينَ يديّ الآب.تفيضُ الثقةُ ومشاعر الشكر من هذا النداء الأول، حيثُ نكتشفُ أنَّ حضورَه يدعمُ وجودنا. ولسنا يتامى وتائهين ولامتروكينَ لقوى هذا العالم ولتأثيراته… فنحن ننعم بمصدر قوّة خارجَ المكانِ والزمان. والقلقَ الذي يسكنُ أحياناً في أعماقِنا يمكن أن يتحوّلَ إلى ثقة. كما لو مارسنا نظرةَ الشكر هذه، لاستطعنا أن نرى علاماتِ حضوره الأبوي في جميعِ الأشياء والأشخاص، في الكونِ كما في الظروف والأحداث الفرحة والحزينة في الحياة. أن نصلّي أبانا الذي، يعني أن نعتادَ على التعرّفِ على حضور اللهِ الآب في حياتِنا اليومية. إنَّ حياتَنا اليوميةَ مملوءةٌ من أبوّةِ الله: وما علينا سوى أن نفتحَ أعينَنا! وهذه النظرةُ تحرّرنا أيضاً من اضطرابِ الحياة: فعنايتَه الله ترافقُنا.
أن نصلي أبانا الذي، يعني أيضاً أن نعيش بشكلٍ إيجابي المواقف التي ندعوها عادة “صمت الله”. فمواقفَ اللهِ “الصامتة” تصيبُ حياةَ كلِّ شخص، وعادة بطريقةٍ مؤلمةٍ ، وأحياناً لمدّةٍ طويلة من الزمن. إنَّ هذا الشعورَ بغيابِ الله، الذي يتعدّى أحيانا خبرةَ الأفراد، ويصبحُ خبرةً تاريخيةً لشعبٍ بأكمله، لا يعني عدمَ اهتمامِ الله بالانسان. إنما هو شكلٌ من الحضور الصامت الذي ينقّي علاقتَنا به. وعلى مثالِ الأبِ والأمِّ اللذان يعلمان أنَّ تربية طفلهما تتطلب نوعاً من الحضور الذي يرافق الابن دون أن يأخذَ مكانه، ويترك الابن أحياناً وحده أمام الصعوبات، هكذا يتصرّفُ الله معنا. فهو لا يعفينا من جهدنا في أن نكونَ بشراً، لكنه في وسطِ معاناتنا أن نكونَ بشراً، نراه يسبقنا باستمرارٍ من “سمائه”، من ذاك الأفُق الذي ينبئ بوصولنا إلى الكمال. فهوَ يوازي في تصرفه معنا بين حضوره هو ومسئوليتنا نحن. وعندما ندعوه أباً، نعني إننا نحسن السير في خطين هما خط الشكر وخط المسئولية.