مع كل عيد من أعياد المواطنين المصريين المسيحيين، تكثر الفتاوى الخاصة بجواز تهنئة المسيحيين بالعيد من عدمه، حيث يتوزع المتحدثون باسم الدين بين ثلاث فرق يتأرجح موقفها في هذا الأمر بين القبول والرفض والتحفظ، بصورة تجعلني أزعم أننا نعود إلى الوراء سنوات بعيدة لنناقش قضايا وموضوعات تجاوزتها المدنية الحديثة.
ولعل من بين أبرز الفتاوى التي صدرت مؤخراً والتي أثارت جدلاً واسعاً فتوى الدكتور عبد الرحمن البر- عضو مكتب الإرشاد الخاص بجماعة الإخوان المسلمين- والذي أفتى بجواز تقديم التهنئة للمسيحيين بعيد الميلاد المجيد، وفي المقابل عدم جواز تهنئتهم بعيد القيامة المجيد بحجة أنه يتناقض مع العقيدة الإسلامية التي لا تؤمن بصلب السيد المسيح وقيامته من بين الأموات!!
وثمة مجموعة من الملاحظات الجديرة بالذكر هنا:
أولاً: يعاني المجتمع المصري، وعلى وجه التحديد خلال السنوات القليلة الماضية وعبر الفضائيات وغيرها من وسائل الإعلام، من تعدد مصادر الفتوى، من متخصصين وغيرهم، وبشكل متناقض في بعض الأحيان، هذا يقول فتوى ليختلف معه آخر، وذلك على الرغم من وجود مرجعية إسلامية عريقة تتمثل في دار الإفتاء المصرية، والتي يرجع تأسيسها إلى نهاية القرن التاسع عشر، حيث تولى منصب مفتي الديار المصرية، أو مفتي الجمهورية في مرحلة لاحقة، شيوخ أجلاء يبرز من بينهم فضيلة الشيخ محمد عبده (1849- 1905م) أحد رموز الاستنارة في مصر الحديثة.
ثانياً: فضلاً عن تعدد مصادر الفتوى فإننا نعاني اليوم من ما يمكن تسميته فوضى الفتاوى، بصورة مزعجة بل ومستفزة في كثير من الأحيان، ومن ذلك مثلاً أنه صدرت فتوى منذ فترة ليست بعيدة تتحدث عن أنه لا تجوز الصداقة بين المسلم والمسيحي، مما اضطرت معه دار الإفتاء المصرية إلى إصدار فتوى توضح جواز الصداقة بين المسلم والمسيحي، حيث أكدت دار الإفتاء أن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين هي التعايش وليس الصدام والعداوة، وهذا يشمل كافة أنواع العلاقات الإنسانية من التكافل والتعاون البنّاء على مستوى الفرد والجماعة، وحسن المعاملة والبر وكرم الأخلاق فهي من الأمور التي أُمِر المسلم بالتحلي بها للعالمين.
ثالثاً: غياب الوعي وعدم تقدير المسئولية، أحياناً، وذلك فيما يتعلق بنتائج الفتاوى وما يمكن أن تثيره من أحقاد واحتقان بين المواطنين، وأقصد هنا على وجه الخصوص تلك الفتاوى المتعلقة بالعلاقة بين الأغيار دينياً، بما يعكس عدم استيعاب الخبرة المشتركة بين المواطنين المصريين.
رابعاً: إن تهنئة الآخر بالأعياد والمناسبات الدينية لا تعني بأي حال من الأحوال التنازل عن العقيدة الدينية، ولا تعني مشاركة الآخر المختلف دينياً الاحتفال الديني، وإنما هي مجاملة اجتماعية مطلوبة بل وضرورية من شأنها توطيد العلاقة وتدعيم روابط الإخوة وتوثيق معاني الاتحاد بين المواطنين وبعضهم البعض.
خامساً: وقوع بعض المتحدثين باسم الدين في فخ تسييس الفتاوى أحياناً، ربما بهدف تحقيق مكاسب سياسية ضيقة، وبالأخص قبل فترة الانتخابات.
سادساً: ملاحظة أخرى جديرة بالاهتمام وهي أنه ثمة علاقة طردية بين تلك الفتاوى المتشددة وبين تهنئة المواطنين المسيحيين بأعيادهم الدينية، فكلما انطلقت هذه الفتاوى كلما اهتم المواطنون المسلمون بتهنئة أصدقائهم وزملائهم المسيحيين بما يعكس خصوصية مصرية تعكس الكثير من معاني المحبة وقبلو الآخر المختلف دينياً.
سابعاً: إن الفتاوى المتشددة إنما تعبر عن جهل تام بخبرة مجتمعية لما يقرب من 1400 سنة من الجوار والتعايش البناء والعمل المشترك، بين المصريين، في فلاحة الأرض والعمل بالمصنع وكل مواقع الإنتاج والعمل، على الرغم من الاختلاف الديني، حتى أن كثيرين ممن زاروا مصر من الرحالة والباحثين، بل والطغاة من المحتلين، لم يستطيعوا أن يفرقوا بين المسلمين والمسيحيين من أهل مصر إلا عندما يذهب المسلم إلى الجامع ليصلي بينما يذهب المسيحي إلى الكنيسة، وهو ما عبر عنه المعتمد البريطاني اللورد كرومر (1883- 1907م) في كتابه الشهير “مصر الحديثة- Modern Egypt”.
إننا نحتاج اليوم إلى تفسيرات وتأويلات عصرية حديثة، لا تتنافى بالطبع مع صحيح الأديان. تعمل على تدعيم الوحدة الوطنية بين المواطنين بما يساعدهم على العمل سوياً وبناء مصر الحديثة الناهضة التي تتقدم إلى الأمام ولا تعود إلى الوراء، تسعى لتحقيق إنجازات حقيقية وتنقطع عن انكسارات الماضي. وختاماً كل عام والجميع بخير رغم أنف المتطرفين.