لقد خلعوا على الصحافة لقب صاحبة الجلالة، لكن صاحبة الجلالة تحمل على رأسها تاجاً من الأشواك! فالصحفى يكتب وسيف الاتهام مسلط فوق رأسه
إن الثامن عشر من مايو 1896، 24 ديسمبر 1976 تاريخان فاصلان فى بلاط صاحبة الجلالة، فهما يتعلقان بميلاد ورحيل الرائد الكبير محمد التابعى الذى أسس مجلة “آخر ساعة” وخاض معارك فكرية وسياسية ضارية
ولد محمد التابعى عام 1896 بالمنصورة وتركه والده وهو في السابعة من عمره عام ١٩٠٣م، وتدرج التابعى فى مراحل تعليمه حتى حصل علي ليسانس الحقوق عام ١٩٢٣م، وحينما كان يعمل موظفاً في إدارة التموين بمدينة السويس تولي الإشراف علي توزيع مواد التموين بعد انتهاء الحرب العالمية الأولي إلي أن انتقل إلي القاهرة وعمل موظفاً في قلم الترجمة بمجلس النواب، وهنا بدأت مرحلة جديدة في حياته
فى بلاط صاحبة الجلالة
بدأ عام 1924 بكتابة مقالات فنية في جريدة الاهرام تحت توقيع حندس ، وكتب فى مجلة روزاليوسف بدون توقيع مقالات سياسية أحدثت أزمة سياسية بين الدستوريين والسعديين فقد كان يعمل موظفا في البرلمان المصري. الا انه استقال من وظيفته الحكومية وتفرغ للكتابة في روزاليوسف التى تسببت مقالاته السياسية القوية في زيادة توزيعها ، وفى عام 1934 أسس التابعي
مجلة أخر ساعة الشهيرة وشارك في تأسيس جريدة المصري مع محمود أبو الفتح وكريم ثابت كما كان محمد التابعى هو الصحفى المصري الوحيد الذي رافق العائلة الملكية في رحلتها الطويلة لأوروبا عام 1937 وكان شاهدا ومشاركا للعديد من الأحداث التاريخية آنذاك. اشتهر التابعي بأنه صحفي يتحقق من معلوماته قبل نشرها وكان يحصل علي الأخبار من مصادرها مهما كانت. وكان أسلوبه ساخرا عندما يهاجم. لكنه كان رشيقا مهذبا وأصبح مدرسة خاصة في الكتابة الصحفية. من ضمن أسلوب التابعى الساخر أن أطلق أسماء هزلية على بعض الشخصيات السياسية المعروفة، وكان يكفى أن يشير التابعى في مقال إلى الاسم الهزلى ليتعرف القراء على الشخصية المقصودة.
تم تأليف العديد من الكتب عنه ومنها سيرته الذاتية في جزئين بقلم الكاتب الصحفى الراحل صبري أبو المجد، وكذلك -من أوراق أمير الصحافة- بقلم الكاتب الصحفى محمود صلاح كما ألف عنه حنفى المحلاوي كتاب – غراميات عاشق بلاط صاحبة الجلالة- وهو يحكي عن أشهر غراميات التابعي ففي مصر وفي أوروبا فقد كان التابعى دون جوان الصحافة المصرية كما كان أميرها ومؤسسها وله العديد من العلاقات المقربة مع مشاهير وأمراء في كل بلاد الدنيا) فقد تزوج من الفنانة زوزو حمدى الحكيم وتمت خطبته لاسمهان ولكن لم تكلل هذه العلاقة بالزواج
وقد قال عنه تلميذه مصطفي أمين: «كانت مقالاته تهز الحكومات وتسقط الوزارات ولا يخاف ولا يتراجع، وكلما سقط علي الأرض قام يحمل قلمه ويحارب بنفس القوة ونفس الإصرار. تتلمذ على يديه عمالقة الصحافة والسياسة والأدب مثل حسنين هيكل، مصطفى وعلي أمين، كامل الشناوي، إحسان عبد القدوس،أحمد رجب وغيرهم.
ومن اشهر اقواله عن الصحافة ومعاركها :
لقد خلعوا على الصحافة لقب -صاحبة الجلالة،”لكن صاحبة الجلالة تحمل على راسها تاجا من الأشواك! فالصحفى يكتب وسيف الأتهام مسلط فوق راسه وقليلون منا نحن الصحفيون هم الذين أوتوا الشجاعة لأبداء رأيهم ولا يبالون قي أن يتهموا قي نزاهتم وأنهم ماجورون ينالون ثمن مقالتهم من دولة ما أو من جهة ما….أذا كتب الصحفى أتهم قي نزاهته وأذا لم يكتب اتهم قي شجاعته بأنه لا يؤدى واجبه ورسالته”
-«رسالتي الصحفية أن أحارب الظلم أياً كان وأن أقول ما أعتقد أنه الحق ولو خالفت في ذلك ” الرأي العام
“أنا لا أسكت على الحال المايل، رأيى ان الصحافة تستطيع أن توجه الرأى العام وليست أن تتملقه أو تكتب ما يسره أو يرضيه.”
“ان يفوتك 100 سبق صحفى أفضل من أن تنشر خبرا كاذبا”
ومن المعارك التى خاضها :انه منذ البداية التابعى وقف إلي صف سعد زغلول، وظل يمجد ذكراه، ثم انتقل يدعو – من بعده – إلي مصطفي النحاس، وانغمس في السياسة، ووقف أمام محكمة الجنايات عدة مرات، وبخاصة حينما تحولت روزاليوسف من مجلة فنية إلي مجلة سياسية وخاضت المجلة ومعها التابعي الكثير من المعارك السياسية إلي جانب الوفد في مواجهة حكومة الأقلية، ، أما القضية الثانية للتابعي فهي المعروفة باسم “الحصانية ” والتى اتهم فيها بسب وقذف وزير العدل أحمد باشا علي والنائب العام محمد لبيب عطية باشا، ومأمور مركز السنبلاوين وصدر الحكم في ١٢ مايو عام ١٩٣٣ بالحبس لمدة أربعة شهور ودخل التابعي السجن الذى وجد به الرسام رخا الذي حكم عليه بالسجن خمس سنوات للعيب في ذات الملك فؤاد.
قصص تم تحويلها إلى أفلام سينيمائية، مسرحيات ومسلسلات تلفزيونية
– نورا، عندما نحب ، عدو المراة ،صوت من الماضى
-فيلم مصري في لبنان بطوله كمال الشناوي نور الهدى لولا صدقي الياس مؤدب قصه الصحفي الكبير محمد التابعي وإخراج جياني فيرنتشو سنه 1952
-سيناريو فيلم “صوت من الماضى” بطولة أحمد رمزى، أيمان، أمينة رزق وعبد الوارث عسر—مسلسل جريمة الموسم في التلفزيون المصري بطولة عادل أدهم
-مسرحية ثورة قرية (كتبت عام 1933) بطولة صلاح قابيل، رشوان توفيق، عزت العلايلى وعادل أمام وأخراج حسين كمال.
-مسرحية “عندما نحب” إعداد د. سمير سرحان ومحمد عدل
و ظهرت شخصية محمد التابعي قي العديد من المسلسلات منها:
– مسلسل أسمهان
– مسلسل أم كلثوم
-هوانم جاردن سيتى وفام بدوره حسين فهمى
-فلاح في بلاط صاحبة الجلالة وقام بدوره الممثل أحمد رفعت
– مسلسل أذاعى قام هشام سليم فيه بدور التابعى
-مسلسل إذاعى قديم باسم معامرات جنيه مصري
-مسلسل عبد الناصر 2008
وإذا كان التابعى قد عرف بريادته فى الصحافة، فإن هناك جانباً ليس معروفاً عند الكثيرين، ألا وهو الإبداع القصصى والروائى والسيناريو السينمائى.. الذى حظى به أستاذنا الكبير.. فمن منا لا يذكر روائع الأبيض والأسود: (عندما نحب، صوت من الماضى، عدو المرأة، نورا، وغيرها) من كلاسيكيات السينما المصرية..
فى كل عمل إبداعى من هذه الأعمال الخالدة يطرح التابعى قضية إنسانية أو اجتماعية أو قصة حب رومانسية، وقد يطرح كل هذه التيمات مجتمعة فى عمل ما من الأعمال..
ففى قصة “عندما نحب” التى أخرجها للسينما فطين عبدالوهاب عام 1969 وقام بالبطولة الفنانان الكبيران رشدى أباظة ونادية لطفى، يعظم التابعى من قيمة التضحية التى تبلغ مداها عندما يقوم البطل (وهو المصاب بداء خطير فى القلب) حياته ثمناً لحبه لعمله كبطل للسباحة، وأيضاً ثمناً لحبه للمرأة التى أرادها رفيقة له فى الحياة.. وعندما يصل لنقطة البطولة ويهديها لهذه الحبيبة نجد روحه تفارق الحياة.. يا لها من تراجيديا.
وفى قصة “نورا” التى أخرجها محمود ذو الفقار عام 1967 وقام بالبطولة الفنان الكبير كمال الشناوى والمتميزة نيللى والفنان الكبير يوسف وهبى ترانا أيضاً أمام قيمة التضحية، ولكنها تأخذ شكلاً آخر، حيث يتدخل البعد الاجتماعى والاختلاف الطبقى فى قيمة العمل منذ البداية حتى النهاية، فالبطل هنا مفكر وكاتب تجمعه المصادفة بفتاة بسيطة تحيطها ظروف خاصة قاسية، ولكن مبادئها تقيها من الزلل إلا أن والد البطل يقف حائلاً دون الارتباط بهذه الفتاة.. وتمضى بنا الأحداث لنقف مرة أخرى أمام قيمة التضحية بالحياة فى سبيل الآخر، وإن كان هنا فعل الموت اختيارياً بإقدام البطلة على الانتخار.. هذا ما يؤلمنى ويدفعنى لعدم قبول هذه النهاية التى تميل بالأكثر إلى الميلودراما (أى الإغراق فى التراجيديا) ففكرة الانتحار -مهما قست علينا الظروف واظلمت الحياة- فكرة غير مقبولة فى اعتقادى، واعتقد أن هذا فكر الكثيرين..
وفى محاولة للخروج من هذه التراجيديا نلتقى بعمل قصصى سينمائى آخر “عدو المرأة” من إخراج محمود ذو الفقار عام 1966، وقام بالبطولة أيضاً رشدى أباظة ونادية لطفى، فعلى الرغم من الاتجاه العدائى الذى يسلكه البطل تجاه المرأة منذ أول الفيلم حتى قبل النهاية بقليل- نجد تغييراً جذرياً فى شخصية البطل فكراً وفعلاً، فالبطل الذى يعانى من شخصية الأم “الخائنة” إذ به يجد الشفاء على يدى امرأة أيضاً ولسان حاله يقول: “داوينى بالتى كانت هى الداء”.. إن علاقة الرجل بأمه ستظل قضية شائكة ليس فى مجتمعنا وأدبنا فى مصر فقط بل فى آداب العالم.. والنهاية (على عكس العملين السابقين..) يتزوج الحبيبان.
صوت من الماضى
أما “صوت من الماضى” الذى أخرجه للسينما عاطف سالم 1956 عن قصة ليوسف عز الدين عيسى وكتب السيناريو والحوار محمد التابعى بالاشتراك مع فتحى غانم.. قام بالبطولة دونجوان السينما المصرية أحمد رمزى بالاشتراك مع إيمان والفنانين القديرين أمينة رزق وعبدالوارث عسر.. هذا الفيلم يعد عملاً مختلفاً اختلافاً جذرياً، لارتباطه المباشر والمتميز بقضايا الوجود والموت والعالم الآخر.. فالبطل تترسخ لديه منذ الطفولة فكرة أن أمه لازالت تنعم بالحياة، وهى التى ماتت ودفنت يقيناً أمام الجميع، وذلك مرده إلى حدث خطير مر به قد يكون حلماً أثناء النوم أو رؤيا حقيقية بين اليقظة والنوم أو فى حالة الساهر الذى يغفو.. لا ندرى ولا يدرى البطل أيضاً كون ما رآه، هل حقيقة أم خيال.. هذا الحدث الذى يغير مجرى حياته يكمن فى هيامه على وجهه بعد رحيل والدته التى يحبها حباً شديداً وسقوطه على الأرض أثر الأمطار الغزيرة المنهالة، فإذا به يلتفت من بعيد ليجد بيتاً واسعاً تشق أنواره أستار الظلام.. فيتعلق به ويجرى إليه لاهثاً متشبثاً بالأمل الوحيد من حوله.. ولما يقترب منه عساه يفكر فى هول ما يراه وما يسمعه أنها أمه بلحمها وشحمها تقترب منه حاملة مصباحاً تقوده إلى داخل البيت (وهو يرقص طرباً من الفرح الممزوج بالدهشة)، وقد علق على حوائطه صورته وصورة شقيقته.. وتبدأ الأم فى سرد حكاية كل منهما فتحكى عن ابنتها (شقيقته) وكيف أن الموت يدركها وزوجها ليلة زفافها فى حادث سيارة مروع.. ثم ننتقل إلى صورته وتحكى حكايته هو الذى يدركه الموت أيضاً وهو فى ريعان الشباب بعد تخرجه وعمله طبيباً. يصرخ البطل الطفل ويصرخ، ولما يفيق يؤكد له الأب أن الأم ماتت ودفنت وشبعت موتاً.. ولكن الطامة الكبرى تحدث حين تتحقق ما قالته الأم عن الشقيقة وما حدث له من حادث سيارة نجا منه، فإذا به تستحيل حياته جحيماً وهو ينتظر ساعة موته كما قصت عليه الأم أيضاً، إلا أن الحكاية تتحقق ولا تتحقق فى آن واحد.. ففى الليلة الموعودة ينشب حريق هائل فى أحد المعامل بالمستشفى الذى يعمل به فور مغادرته له، وقيامه بإجراء عملية جراحية لطفل صغير بين الحياة والموت.. وكأنه بمساعدة الأم المكلومة وإنقاذ حياة طفلها ينجيه الله من موت محقق كاد يحدق به كما أخبرته أمه.
إنها حكمة الله التى لا يعلمها أحد.. فالأم رغم أنها عرفت كل الأحداث المستقبلية إلا أنها لم تعرف أن ولدها وهب له عمر جديد وحياة جديدة..
رحم الله محمد التابعى صاحب المدرسة الصحفية المميزة وكل هذه الأعمال الإبداعية الخالد