يشير القديس متى إلى عدد التلاميذ أنه أصبح أحد عشر، لقد نقصوا واحداً، فيهوذا لم يعد موجوداً بعد خيانة الرب. وجرح الكنيسة لا يزال مفتوحاً مؤلماً،هو جرح الخيانة، جرح ترك التلميذ لربه واستبداله بفضة الأرض وغناها العابر.
يشير القديس متى إلى عدد التلاميذ أنه أصبح أحد عشر، لقد نقصوا واحداً، فيهوذا لم يعد موجوداً بعد خيانة الرب. وجرح الكنيسة لا يزال مفتوحاً مؤلماً،هو جرح الخيانة، جرح ترك التلميذ لربه واستبداله بفضة الأرض وغناها العابر. إنَّما التلميذ الناقص هو الدليل على وفاء الرب لكنيسته، لم يستبدلها، لم يفتِّش عمَّن هم أكثر كمالاً أو شجاعة أو قوَّة. يكمل الرب مغامرة الحب مع التلاميذ أنفسهم، هم الذين أنكروه وهربوا. لقد عاد ليكمِّل معهم، لأنَّه الوفي الدائم، ولأنَّه يثق فينا، رغم الخيانات المتكرِّرة ورغم الخوف الذي يملأ قلوبنا. عاد ليكمِّل معهم لأنَّه قادر على تحويلهم إلى صورته إن هم استسلموا بين يديه واثقين به.
هو حال كل واحد منَّا، نخون الرب كل يوم،نفتِّش عن السهل، نسلم الرب بين أيدي من يريدون قتله، ونهرب، نختفي في عبثية هذا الوجود وفي ليل لهوه ولذَّته، نهرب مفتِّشين عن الحلول السهلة، لأن اختيار يسوع يتطلَّب التزاماً وسهراً وتضحيات. نهرب فنجده دوماً بانتظارنا، يفتِّش عنَّا، ويبدأ معنا من جديد، يقودنا كلَّ يوم إلى الجليل، حيث وُلدت علاقتنا به وتتلمذنا له.
لقد توجَّه الرسل إلى الجليل كما أمرهم سابقاً الرب يسوع. إن العودة إلى الجليل هي ذات معنى رمزي ولاهوتي لا ينفصلان عن حياة الرسول وعن دعوة الكنيسة.
فالجليل هو مكان اللقاء الأوَّل مع يسوع، حيث سمع التلاميذ دعوة يسوع لهم لإتباعه ولبُّوا الدعوة. عودتهم إلى الجليل بعد القيامة للقاء الرب هي عودة الرسول إلى الحب الأوَّل بعد الخيانات المتعدِّدة، وبعد أيام الشك والقلق وفقدان الرجاء. يسوع يدعوهم للقائه خاصَّة في جليل حياتهم الشخصيَّة، أي لأن يعودوا إلى صداقتهم الأولى له، إلى محبَّتهم غير المشروطة لشخصه وللتكريس العميق في نمط حياة جديدة يدعوهم إليها، أي أن يكونوا رسلاً يبشِّرون بإنجيله.
ومن الناحية اللاهوتية، العودة إلى الجليل هي رمز ذو بُعدٍ لاهوتي، يُدخِل الكنيسة بأسرها في عمل المسيح الخلاصي كإستمرارية لعمله وكوسيلة لنشر إنجيله. فالجليل في العهد القديم هو ” جليل الأمم”، مكان اللقاء مع الحضارات الأخرى والتقاليد الغريبة والديانات الوثنيَّة. عودة الرسل إلى الجليل هي انطلاق الكنيسة في عملها التبشيري، تنطلق لا من هيكل أورشليم، محور وجود الشعب المختار القديم، بل من جليل الوثنيين، حيث “الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً” كما أعلن أشعياء النبي.
وهذه الإشارة إلى الجليل وأهميته من ناحية الإعلان المسياني قد سبق ومهَّد لها متى الإنجيلي في (مت 4: 14- 17)، تمهيداً لحقيقة تجد كمالها في هذا النَّص الختامي من الإنجيل نفسه. في متى إصحاح 4 بدأ يسوع بإعلان الملكوت، وفي متى إصحاح 28 تستلم الكنيسة هذه المهمّة كأداة استمرار لعمله الخلاصي.
” لكي يتم ما قيل باشعياء النبي القائل. 15 ارض زبولون وارض نفتاليم طريق البحر عبر الاردن جليل الامم. 16الشعب الجالس في ظلمة ابصر نورا عظيما.والجالسون في كورة الموت وظلاله اشرق عليهم نور. 17 من ذلك الزمان ابتدا يسوع يكرز ويقول توبوا لانه قد اقترب ملكوت السموات” (مت 4 : 14- 17)
“19 فاذهبوا وتلمذوا جميع الامم وعمدوهم باسم الاب والابن والروح القدس. 20 وعلموهم ان يحفظوا جميع ما اوصيتكم به.وها انا معكم كل الايام الى انقضاء الدهر.امين” (مت 28 : 19، 20)
إلى الجَبَلِ الَّذي أَمَرَهم يسوعُ أَن يَذهَبوا إِليه… لسنا نعلم عن أي جبل يتكلَّم “متى”، إذ لم يسبق الكلام عن جبل محدَّد في الجليل دعاهم الرب للعودة إليه بعد القيامة. هو بحسب التقليد جبل طابور مكان التجلِّي، إنَّما هو بنوع خاص الجبل اللاهوتي، أي مكان الارتفاع عن الواقع المادي. يستعمل “متى” رمز الجبل حين يتكلَّم على إحداث ذات بعد لاهوتي عميق، فالجبل كما قلنا هو مكان التجلِّي.. تجلي يسوع لتلاميذه (17/ 5)، وعلى الجبل علَّم الرب الجموع، وفي بداية حياته العلنيَّة قاده الشيطان إلى جبل عالٍ ليجرِّبه بممالك الأرض التي هي أدنى من الجبل، ومن هذا نستشف أن الجبل يرتبط لاهوتيًّا بالمكان المرتفع المتعالي عن ممالك الأرض كلِّها، عن المادة العابرة والآن يعود التلاميذ إلى الجبل ليسجدوا له. يتكلم عن الآب والروح القدس فوق الجبل.
فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم هذه الدعوة التي يوجِّهها الرب للتلاميذ تكمل دعوتهم للعودة الى الجليل، إلى مكان الدعوة الأولى. دعوتهم ليست شخصيِّة بل بهذه الكلمات صار هدفهم كونيًّا. لا يمكن للتلميذ الذي عاين قيامة الرب أن يقيِّد هذه الحقيقة ضمن حدود شخصه وحياته، أو مجتمعه الضيِّق أو شعبه الخاص. الدعوة المسيحية للتبشير هي دعوة لتخطي الأنانية والإنغلاق على الذَّات وللإنطلاق نحو الآخر. التبشير يعني الإنطلاق إلى المختلف، والدخول في علاقة معه.
من المستحيل أن يكون المسيحيّ المؤمن بالقيامة وبالثالوث منغلقاً على ذاته، جامداً غير متحرّك، فدعوة المسيحيّ الحركة، الإنطلاق إلى الآخر في علاقة حب دائمة، على صورة الثالوث المنطلق دوماً: الآب ينطلق أبدياً نحو الإبن بالحب، والإبن مستجيب ومنطلق أبديّاً نحو الآب بالحب، ورباط الحبّ السرمديّ هذا الّذي يجمع الأقنومين هو الرّوح القدس، المساوي لهما بالجوهر والمتمايز عنهما بالأقنوم. رباط الحب الإلهيّ، الروح القدس، ليس موجوداً كعاطفة بين الآب والإبن، بل هو حبّ قائم بذاته وإن وجد مصدره في حبّ الآب للإبن وللوجود. هو الحبّ الموجود منذ الأزل مع الأب وفي قلب الأب، وينبثق إلى الآبد في علاقة أبديّة بين الأب والإبن. هو روح يعطيه المسيح إلى نهاية الأزمنة لكنيسته يقودها ويعلّمها ماذا تقول.
هذه الكنيسة التي ولدها الابن من جنبه المطعون على الصليب قد شاءها الأب وأحبَّها كوسيلة لإتمام إرادته الخلاصيِّة، وهي تسير إليه، حاملة أبناءها نحوه ليشاركوا، إن حافظوا على التعليم الصحيح، في ملكه السماوي. دليلها ومرشدها هو الرُّوح القدس الذي يلهمها وينيرها لتعطي التعليم الحق دون خطأ أو ضلال. إيماننا بالكنيسة يقوم لا على ثقتنا بالبشر الذين يكِّونون جسدها، بل على عمل الثالوث الذي أرادها وأسَّسها ولا يزال يقودها وينيرها لتعلن للبشريِّة كلِّها إنجيل الخلاص وتصل بها الى المشاركة في الملك السماويّ.
أتوجه إليك أيها القارئ العزيز بخالص التهاني الفصحية عبر كلمات القديس أغسطينس: “إن قيامة المسيح هي رجاؤنا”…