من المعروف أنه مع غياب الأمن يتزايد الإحساس بالخوف، وهذا هى المعادلة المنطقية التى تعلمناها ونرتاح لبداهتها، ونعيشها الآن فى ظل حالة الإنفلات أو التقاعس الأمنى غير المسبوق. ولكن علينا أن نتذكر، أن العقود الماضية شهدت كثافة أمنية غير مسبوقة، ومع ذلك لم يكن الأمان سمة عامة، بل كان الخوف وإن اختلفت طبيعته، حيث كان الخوف من الأمن وليس من غيابه. وبكلمة لم يكن الأمن نقيضا للخوف بل امتدادا له. فقد عشنا حالة أمنية ارتكزت بالأساس على الإخافة، حيث كانت مؤسسة الأمن تحقق ذاتها وتنتزع اعترافنا بها انطلاقا من خوفنا. والمسألة هنا لا تتعلق فقط بالأمن السياسى الذى كان ومازال مصدر إخافة، بل بمنطق الأمن ذاته من حيث هو حماية. وببساطة فإن المنطق الأمنى السائد ارتكز على أن الخوف كشرط ضرورى لوجوده واستمراره. ولعل الحرب على الإرهاب هى أكثر مظاهره بروزا، حيث تم الايحاء بأن الإرهاب كامن وقائم فى كل مكان من الأحياء العشوائية والأحراش والجبال وحتى المطارات والفنادق والأحياء الراقية وفى ذواتنا، فكل منا مجرم محتمل، والإرهاب يتحرك داخلنا وحولنا لينشر الخوف. وبهذا المعنى فإن وظيفة الإرهاب قد لا تكون فى قدرته على الفعل بقدر قدرته على تعزيز الحاجة للأمن. وفى النهاية يبقى الخوف ليبقى الأمن، وهكذا اتخذت المؤسسة الأمنية مشروعية وجودها واستمراريتها، وأولا وقبل كل شئ امتيازاتها.
وهنا أعيد التأكيد على فكرة أن الأمن، وخاصة فى إطار الحرب على الإرهاب، جرى تقديمها وصناعتها كما لو أن الأمن قيمة إنسانية. فإذا كانت البشرية فى السابق قد انشغلت بالعمل من أجل إقرار مبادئ الحرية والإخاء والمساواة، فإن السلطات، فى ظل الحرب على الإرهاب، عملت من أجل إعلاء الأمن كقيمة. وحتى يكون الأمن قيمة يجب أن يحظى باعتراف حتى لوكان اعترافا قسريا، وهنا تبرز أهمية الخوف ودوره الوظيفى من أجل توفير مناخ مواتى للاعتراف بالأمن.
والآن ومع تراجع دور المؤسسة الأمنية، وبالطبع إكتشاف هشاشة هذه المؤسسة، لم يتراجع الخوف، بل زادت حدته. وربما لم يعد الناس يخشون المؤسسة الأمنية كما فى السابق، ولكنهم بالمقابل باتوا يخافون من كل شئ ومن أى شئ. وبالطبع، فإن النساء والأطفال هم الفئات الأكثر عرضة لتحمل تبعات الانفلات الأمنى. ولكن الأمر لم يعد يقتصر على ذلك فحسب، فحتى الفئات الاجتماعية الأقدر والتى ظنت أنها الأكثر حظا من الناحية الأمنية، دخلت هى الأخرى دائرة الخوف، وخاصة مع غياب العدالة الاجتماعية وتردى الأوضاع الاجتماعية، فبات المهشمون المتحررون من بطش الأمن مؤقتا مصدر إخافة للقادرين الخائفين من العنف الكامن فى خوف المهمشين وذعرهم الاجتماعى. وفى هذا المناخ يحلق الخوف وتزداد الحاجة للأمن، ربما أكثر من السابق. وهذه هى المعضلة التى نواجهها الآن. فهل نستبدل خوفا عاما بالخوف الخاص من المؤسسة الأمنية؟
أعتقد أن ثمة حاجة لمعادلة جديدة، تفصل بين الأمن والخوف، وتوصل بين الأمن والأمان. ومن ثم علينا مواجهة هذا النزوع نحو تسييد وإشاعة مفهوم معين للأمن، أى ذلك الذى يرتكز على الخوف، فنحن فى حاجة إلى إعادة الإعتبار للأفكار البسيطة بشأن تحرير البشر من الخوف والذى لا يعنى بأى حال مزيدا من الترسانة الأمنية، بل مزيدا من الحرية والتحرير من الفاقة والعوز.