مع تصاعد سطوة التيار الإسلامي بعد ثورة25يناير وانفلات الأفكار والمشاعر التي نزعت إلي تصفية الحسابات مع من تصورتهم أعداء الإسلام شغل الرأي العام بدعوي قضائية مرفوعة أمام القضاء تتهم مجموعة من العاملين بالحقل الفنى
مع تصاعد سطوة التيار الإسلامي بعد ثورة25يناير وانفلات الأفكار والمشاعر التي نزعت إلي تصفية الحسابات مع من تصورتهم أعداء الإسلام شغل الرأي العام بدعوي قضائية مرفوعة أمام القضاء تتهم مجموعة من العاملين بالحقل الفني-وعلي رأسهم الفنان عادل إمام بالتعدي علي الإسلام والمسلمين باستغلالهم الدين في أعمالهم للترويج لأفكار متطرفة,بقصد إثارة الفتنة وتحقير وازدراء الدين الإسلامي عموما,والجماعات الإسلامية خصوصا,مما يضر بالوحدة الوطنية…هكذا جاء منطوق الادعاء,والكل يعرف كيف استهجن قطاع عريض من الرأي العام ومن أهل الفكر والفن تلك الدعوي,لكن كان علي القضاء أن يفحصها وينظرها ويصدر حكمه النهائي فيها,وهو الحكم الذي أصدرته محكمة العجوزة الجزئية بتاريخ2012/4/26 حيث حكمت بعدم قبول أي من الدعوة المدنية والجنائية لعدم توافر أركان الجريمة…وتنفس الرأي العام الصعداء وخرج الفنان عادل إمام محمولا علي الأعناق واحتفل أهل الفن به وبرفقائه ليس لبراءتهم التي لم يشك أحد فيها لحظة وإنما لهزيمة تيار الفكر الأصولي المتطرف ومحاولته فرض الوصاية علي الفكر والفن وتقويض رسالتهما السامية في المجتمع.
وإذ أعود لفحص أوراق هذه الدعوي أسجل بعضا مما جاء في حيثيات الحكم لأنه يبقي مخفيا علي الرأي العام بينما ينطوي علي أهم وأخطر المعايير التي سطرت الحكم:
**لايضير ولي الأمر وهو بصدد إيجاد أطر عامة لتنظيم المجتمع والحفاظ علي النظام العام فيه أن يعتقد شخص فيما يخالف الجماعة أو مايدين به عامة الناس,وإنما الذي يعني به هو نزع فتيل الأزمات والحيلولة دون احتكاك طوائف الشعب الواحد وترديهم في هوة النزاع الطائفي المقيت…أما حرية التعبير عن الرأي في المعتقد فلا تدخل ضمن حدود التأثيم والعقاب اللذين تملكهما الدولة إلا إذا اقتضت الضرورة الحفاظ علي السلم العام.
**استخدام المقياس الفضفاض المسمي بالأفكار المتطرفة والذي لا يبين حدا ولا ضابطا لما يعد متطرفا وما يعد غير متطرف,هو قول يهدد بأن ينتهي بالنظام القانوني بما يشبه محاكم التفتيش,فيفتح الباب للتفتيش في الأفكار ومن ثم العقائد والحجر عليها بدعوي الهرطقة والردة والزندقة,ويرد المجتمع بأثره إلي الظلامية والجحود,وشمولية تيار فكري ديني بعينه,ويجهض جميع التطلعات بتطوير الخطاب الديني,وهو ماينتهي علي المستوي التطبيقي إلي تحكيم بشر من نوع خاص يزعمون لأنفسهم احتكار حق الفهم والشرح والتفسير والتأويل وأنهم وحدهم الناقلون عن الله,بينما نحن جميعا نعكف علي الاجتهاد ولايمتلك أحد منا صوابا ولايملك لآخر معاتبة طالما أن التعبير عن الرأي ناجم عن نقاء سريرة واجتهاد محمود.
**حرية الرأي مكفولة ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون والنقد الذاتي والنقد البناء ضمانا لسلامة البناء الوطني…والقصد من حماية الأديان ليس حماية الأفكار والعقائد ومن ثم منع مناقشتها والجدال فيها,ولا حماية العواطف المستثارة بطبيعتها إذا ماحاول أحد الاقتراب من ثوابتها الفكرية خاصة الدينية منها,لأن ذلك يناقض الأسس التي قامت عليها الأديان من دعوي للتفكير وتحدي ماهو ثابت من معتقدات كانت راسخة لدي الشعوب التي نزلت عليها…ومن ثم فإن الحماية ليست للأفكار,فالأفكار لايجابهها سوي الأفكار والحجة بالحجة ولا إكراه في الدين,إنما الحماية القانونية للوحدة وتجنب الفتن وللحريات في ممارسة العقائد,ولا سلامة لمجتمع إلا بالتعددية وحرية الفكر,ففي الاختلاف إثراء,ولا حصانة لفكر ديني إنما الحصانة للدين ممن يستخدمونه لمآربهم الشخصية,والحساب هنا علي القصد فإذا كان القصد هو مناقشة الفكر ونقده حتي وإن كان بطريقة لاذعة وبطبيعة الحال جارحة لأهل هذا الفكر لمكانة المعتقد الديني في نفوسهم مما سيعد تحقيرا أو ازدراء,فلا تجريم…أما محاولة صهر الناس في بوتقة عقائدية روحانية أو سياسية واحدة من قبل الدولة أو من قبل جماعة هو أشبه بالحرث في البحر أو بالقبض علي الماء بأكف أيدينا.
**النقد لتيار فكري ديني لاتجريم عليه,ولا يقدح في ذلك القول بأن هناك عقابا بالشريعة للمرتد عن دين الإسلام,ففي مسألة الردة,وهي الفكر بعد الإسلام عن وعي واختيار,فلقد نصت آيات الكتاب علي استبشاع هذه الجريمة في مواضع كثيرة وتوعدت مقترفها بأشد العذاب,من دون نص علي عقوبة محددة في الدنيا.
**لاخلاف بين المؤرخين والعلماء علي أن من أسباب نهوض الفقة الإسلامي حرية الرأي وكثرة الجدل العلمي بين الفقهاء,فالاختلاف والنقد والصراع والمنافسة هم نواة أي تطور كما أن الحرية هي أساس أي إبداع.
*بينما يري الشيوخ المعتدلون أن الإسلام ليس ضد الفنون والآداب الراقية,يذهب الكثير من شباب الجماعات إلي تحريم فنون الغناء والتشكيل والموسيقي والمسرح ويصرون علي أن يقيموا أنفسهم حراسا مدافعين عن العقيدة ضد الأخطار,وعلي افتراض أن تلك الأعمال تتناقض وفهمهم للعقيدة هل معني ذلك أن يختزل الدين في فهمهم وتأويلهم؟إن الدين والعقيدة في نفوس المصريين بطبيعتهم كشعب متدين أقوي من أن يهددهما عمل فني…ولما كانت الدعوي للدين مكفولة فمن باب أولي الدعوي لإصلاح الدين هي أيضا مباحة ولاقيود عليها…لقد كانت حرية الرأي والإبداع والتفكير العلمي سببا في ازدهار الفقة الإسلامي والمجتمع ومن ثم يجب التقييد كل التقييد عن وضع القيود علي تلك الحريات لما له من أثر في كبح مسيرة التقدم في أي مجتمع.
***حيثيات الحكم في هذه الدعوي جاءت في كراسة كبيرة جاوز عدد صفحاتها الخمس والعشرين,وكم وددت لو أتيح لي نشرها كاملة لأنها بمثابة عمل قانوني أدبي ديني ووطني يغوص في تاريخ وضمير هذا المجتمع ليكشف أجمل مافيه ويزيح عنه الغمامة التي جثمت علي صدره محاولة اغتيال ثوابته ووسطيته وإيمانه الحق…شكرا قضاءنا الشامخ العادل.