في 19 مارس 2003 أعلن جورج دبليو بوش بدء الحرب الأمريكية علي العراق باسم الصدمة والرعب عشر سنوات تنقضي علي هذا الحدث الخطير الذي ستمتد تداعياته لعشرات السنين. في الأحداث الكبري مثل الغزو الأمريكي للعراق, هناك أسباب وربما تبريرات تطرح علي الرأي العام, وهناك أسباب حقيقية يظل البحث عنها طويلا وربما لا يتوصل إليها أحد علي الإطلاق, وفي بعض الأحيان تتقاطع بعض أو كل الأسباب المعلنة مع الأسباب الحقيقية. يحار المرء في فهم الأسباب الحقيقية وراء غزو أمريكا للعراق, أما الأسباب المعلنة فهي معروفة وتتلخص في أسلحة الدمار الشامل الموجودة لدي نظام صدام والتي ثبت عدم صحتها, والعلاقة بين صدام والقاعدة والتي ثبت عدم صحتها أيضا, والسبب الثالث وهو نشر الديموقراطية في العراق وفي الشرق الأوسط.
الإدارة الأمريكية وقتها قررت بعد ما حدث في 11 سبتمبر أن الشرق الأوسط مصدر للإرهاب والعنف والكراهية ولابد أن يتغير, وكان حلمها أن يتغير بما سماه جورج بوش أجندة الحرية, أي دمقرطة المنطقة التي تبدأ من العراق وتنتشر بنظرية الدومينو. وفي نفس الوقت محاصرة مراكز تصدير الإرهاب في السعودية وإيران من أرض العراق. وعندما فشلت هذه النظرية في تغيير الشرق الأوسط استعانوا بالبديل الاحتياطي وهو إغراق الشرق الأوسط في الفوضي والخراب بدون طلقة واحدة وذلك بترك المنطقة تحكم من قبل أوغادها المخربين,ومن ثم فأن المشهد الذي نراه حاليا في الشرق الأوسط هو نتيجة غير مباشرة لما حدث في العراق, والذي هو بدوره نتيجة لما حدث في 11 سبتمبر.
ولكن السؤال المطروح لماذا فشلت أجندة الحرية ونظرية فرض الديموقراطية في العراق؟.
أول هذه الأسباب وأهمها تحالف كل الديكتاتوريات في المنطقة لإفشال المشروع الأمريكي للديموقراطية, وكان الحل لعرقلة عدوي الديموقراطية تصدير الإرهاب الإسلامي إلي العراق وإغراقه في العنف والفوضي والقتل والتخريب, عشرات الآلاف من الإرهابيين تم إطلاقهم من السعودية وإيران وسوريا وقطر وتركيا لتخريب التجربة العراقية. إن ظاهرة الإرهاب الإسلامي وظاهرة تنظيم القاعدة ومشتقاتها أمريكا التي صنعتها في أفغانستان واكتوت بنارها في نيويورك وفي العراق وسوريا وكل الدول التي ساهمت في هذه الظاهرة الإجرامية ستعاني منها يوما ما. لقد تم خلق ما يعرف بـالإرهابي الجوال الذي يتنقل من أفغانستان إلي الشيشان إلي البوسنة ثم إلي الصومال ثم إلي العراق ثم إلي سوريا ومالي ومن يزرغ الشوك لابد وأن يجني الجراح يوما ما.
ثاني أسباب فشل المشروع الأمريكي في العراق هي القراءة الأمريكية السطحية للثقافة الإسلامية, حيث تصورت أمريكا أنها قادرة علي إعادة خلق النماذج الديموقراطية التاريخية كما حدث في ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية, ولم تفهم الفروق الشاسعة بين هذه الثقافات والثقافة الإسلامية, حيث إن الأخيرة تعادي بدرجة كبيرة الغرب وتعادي بدرجة أكبر النموذج الغربي للحريات والديموقراطية كما أنها تعادي العولمة والحداثة وانفتاح رعاياها علي النادي الإنساني.
من الأسباب المهمة لفشل التجربة الأمريكية في العراق أيضا السلوك الأمريكي ذاته, فبعد عشرات السنين من دعم الديكتاتوريات في المنطقة جاءت أمريكا لتضغط لنشر الديموقراطية متجاهلة أن هذا الدعم الطويل للاستبداد والمستبدين أدي إلي نمو معارضة دينية فاشية ودموية تعادي الديموقراطية, كما أدي إلي جهل هذه المجتمعات بثقافة وممارسات الديموقراطية الحقيقية, فالكائن البشري ليس آلة يتم الضغط عليها لتحويلها إلي الاتجاه الذي تريد, ولكنه كائن يحتاج إلي التعليم والتدريب والتدريج والتجربة الأمريكية نفسها في الديموقراطية أخذت عقودا لكي تنمو وتنضج وتصل إلي ما هي عليه الآن.
من أسباب فشل دمقرطة العراق كذلك الأخطاء الجسيمة التي وقعت فيها الإدارة تحت قيادة السفير بول برايمر في العراق خصوصا قرار اجتثاث البعث وحل الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية بتحريض ومشورة سيئة من القيادات الشيعية التي كانت ملتفة حول بوش وبرايمر, وكان البديل هو الفوضي ثم الميليشيات الطائفية ثم جيش طائفي وأجهزة أمنية طائفية تتسم بالانحياز المفرط للشيعة ولا تعكس التوازن في تمثيل الأطياف العراقية بشكل عادل.
وأخيرا كان من أسباب فشل الديموقراطية في العراق الكراهية المحبوسة والمكتومة بين مكونات التركيبة العراقية, فقد تسبب القمع الشديد تحت حكم صدام واضطهاد الشيعة والأكراد, إلي نمو الظلم وتحويله إلي كراهية عميقة تحت السطح, وبمجرد رفع الغطاء عن المرجل بعد الغزو الأمريكي خرجت أبخرة الكراهية السوداء لتعمي عيون العراقيين عن التعايش والمشاركة عبر الديموقراطية الحقيقية, وحل محل ذلك الكراهية والعداء والقتتال من أجل المغالبة بديلا عن المشاركة.
لقد ساهم الجميع في إفشال التجربة الأمريكية في العراق بما فيهم الأمريكيين أنفسهم, وكان البديل للفشل مئات الآلاف من القتلي العراقيين وخمسة ملايين طفل عراقي يتيم ومليونان لم يستكملوا تعليمهم, و4488 قتيلا بين الجنود الأمريكيين بخلاف المصابين وتكلفة مباشرة للحرب دفعها الاقتصاد الأمريكي تتعدي التريليون دولار وضعف هذا المبلغ تكلفة غير مباشرة, وخرج العراق دولة طائفية بعيدة كل البعد عن الديموقراطية الحقيقية, وخرج الاقتصاد الأمريكي من العراق بأزمة كبيرة من الصعب التعافي منها قريبا, وتغير الشرق الأوسط من خلال تعميم الفوضي عبر حكم الإسلاميين وصار أبعد ما يكون عن طريق الديموقراطية الحقيقية, بل بات الحنين يتزايد إلي الاستبداد المستقر عند الكثيرين في المنطقة.
إن ما يحدث اليوم من تغيرات عميقة وخطيرة في الشرق الأوسط ستظهر آثاره بوصوح خلال عقد من الزمان وهو نتاج فشل التجربة الأمريكية في العراق, ولعل الذين ساهموا في فشلها لم يكونوا يعلمون أن البديل الجاهز عند الأمريكيين هو حكم الفاشية الإسلامية.
وسيندم الجميع في المستقبل علي إفشال التجربة الأمريكية في العراق وعلي رفض أجندة الحرية لأنهم سيعانون من أجندة الفوضي لعقود طويلة سيكون لون الدم فيها هو الأكثر وضوحا في هذه المنطقة.