يوم الاثنين 11فبراير فاجأ قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر العالم بقرار خطير وعظيم, وهو قرار استقالته من رئاسة كرسي روما للكنيسة الكاثوليكية التي يزيد اتباعها حول العالم عن المليار ومائتي مليون شخص, هذا القرار يعكس شخصية البابا بنديكتوس الفذة, فهو شخص زاهد ومتواضع وفيلسوف عالمي وعالم لاهوتي بارز, وهو قرار يوضح أيضا عمق المسئولية والالتزام الروحي عند هذا الأسقف الجليل. بابا روما المستقيل لمن لا يعرفه هو واحد من أبرز فلاسفة أوربا في تاريخها كله, وأحد أبرز اللاهوتيين في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية وفي تاريخ أوربا, هو علامة في اللاهوت وفي الفلسفة.
وقد ذكر لي الصديق المهندس عادل جندي أن البابا عندما جاء لباريس لإلقاء محاضرة لاهوتية فلسفية كان جمهور الحاضرين من قامات فكرية تضارع طه حسين عندنا, ولأن هذا الرجل عميق الفلسفة عميق الإيمان كان عنوان حبريته الرئيسي هو ##الإيمان والعقل##, فقد كان تركيزه الرعوي علي التعمق في الإيمان بالعقل وتذليل التحديات العقلية التي تواجه الإيمان في ظل عالم معقد ومتطور, في حين كانت رسالة حبرية قداسة البابا يوحنا بولس الذي سبقه هي ##الإيمان والحرية## لأنه كان يسعي لتحرير المؤمنين من قهر الشيوعية للحريات الدينية والحريات العامة, وقد كان له بالفعل دورا بارزا في سقوط الشيوعية منذ محاضرته الشهيرة عندما كان أسقفا في بولندا لشعبه ومقولته الخالدة ##كونوا رجالا## طالبا منهم تحدي الشيوعية بشجاعة ورجولة.
لقد أثيرت تساؤلات عقب الاستقالة من نوعية, هل هناك استقالة من الكهنوت ومن الخدمة؟ والواقع أن من يسأل عليه أن يفرق بين الأمور, فالكهنوت هو سر مقدس, وهو مستمر حتي الانتقال من الحياة إن لم يحدث تجريد منه, وهو سر يحمله القس كما يحمله البابا بنفس الفاعلية الروحية, وبالتالي فالبابا سيظل كاهنا حتي نياحته. أما مسألة الخدمة فلها شقان وهما الرعاية الروحية المباشرة والرعاية الروحية غير المباشرة, وأي خادم في الدنيا قد لا يستطيع ممارسة الرعاية الروحية المباشرة لظروف المرض وخلافه, ولكن تبقي الرعاية الروحية غير المباشرة وهي الصلاة من أجل الخدمة ومن أجل المؤمنين, وهي مهمة سوف يستمر قداسته يقوم بها حتي النياحة. أما الأمر الثالث فهو الاستقالة من إدارة شئون الكنيسة ومن وضعه في قمة التنظيم الهيراركي الروحي, وهذا هو المعني المقصود بالاستقالة.
وهنا يجب أن نوضح نقطة غاية الأهمية, وهي أن الرتب الكنسية مثل الأسقف والبطريرك وخلافه هي ليست نصا مقدسا أو فرضا من فروض الإيمان, هي فقط عملية تنظيمية لإدارة شئون الكنيسة, نعم هي سلطة دينية لتسهيل العمل الإداري والروحي, ولكنها سلطة من أجل خدمة المؤمنين وليس التسلط عليهم, وأي شخص يحمل مثل هذه الرتب الروحية إذا ارتفعت السلطة علي الخدمة عنده أو إذا مورست السلطة بدون محبة, سيسقط في بئر فساد السلطة, فالسلطة جعلت لأجل الخدمة ولأجل الإنسان, والبابا أو الأسقف أو الكاهن هو خادم لشعبه أي خدام للشعب يفتخر بغسل أرجلهم, كما فعل السيد المسيح له المجد, أما إذا استخدم السلطة الروحية للتعالي أو الإيذاء أو التسلط أو لمظاهر الأبهة والمنظرة والراحة والفخفخة والهيلمان وتسخير الآخرين لخدمته وراحته, عند هذا الحد يكون قد سقط كخادم ووقع في فخ إغراء السلطة وفسادها, إن مقولة لورد أكتون السلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة هي مقولة خالدة تنطبق علي السلطة الروحية والسلطة السياسية, والتاريخ خير شاهد علي مفاسد السلطة الدينية وانحرافها كثيرا عن دورها المرسوم لها. إن تحول الخادم إلي مخدوم بفعل السلطة هو سقوط في عفن ومساوئ السلطة وقمة الانحراف الروحي. وللبابا بنديكتوس مقولة جميلة وهي ##الله محبة ولا شئ آخر##, فحتي سلطة الله علي الخليقة كضابط للكل يمارسها بقمة المحبة لمخلوقاته, ولهذا يصف قداسة المتنيح البابا شنودة ذلك شعريا بقوله: ##يا قويا ممسكا بالسوط في يده والحب يدمي مدمعك##, فإلهنا القدوس العظيم ضابط الكل يمارس سلطته علي عبيده بقمة الحب, فبالأحري يكون الخادم الحقيقي تجاه أخوته في الإنسانية.
إن قرار الاستقالة هو قمة الأمانة في الخدمة والأمانة مع الناس ومع الله وقمة المسئولية الروحية عن الرعية, فهو مطالب بكل نفس أمام الله, وخير له في حالة العجز أن يستقيل من أن تكون خدمته صورية أو تتشكل مراكز قوي حول منصبه تأخذ قرارات خاطئة باسمه يحاسب عليها أمام إلهه. كما أن استقالته هي رسالة رعوية في حد ذاتها لكل الخدام في العالم ولكل شخص لديه سلطة روحية وللكنائس الرسولية الأخري.
وجب التنويه والإشادة أيضا برسالة قداسة البابا تواضروس إلي قداسة البابا بنديكتوس بهذه المناسبة ومما جاء فيها ##لقد علمنا برغبتكم في اعتزال منصبكم كأسقف للكنيسة الكاثوليكية, وقد تأثرنا قلبيا بهذا القرار غير المتوقع, ولكننا في نفس الوقت نثق في شخصكم الحكيم وضميركم الصالح أمام الله, وكذلك اتضاعكم وغيرتكم علي كنيسة الله المقدسة التي افتداها بدمه الكريم علي خشبة الصليب المقدس, لقد شعرنا بقرب قداستكم من كنيستنا وروحانيتها ولن ننسي أبدا بيناتكم وردود أفعالكم لصالح الكنائس الشرقية في لحظات الألم التي مرت بها في تاريخنا المعاصر##.
من المهم أيضا إعادة نشر نص خطاب الاستقالة القصير فهو بمثابة رسالة مركزة تصلح للدراسة والتأمل ويجب تدريسها في معاهدنا اللاهوتية, وأتمني أن تقوم الكنيسة الكاثوليكية في مصر بترجمة بعض مؤلفاته وخاصة كتابه الشهير بعد البابوية ##يسوع ابن الناصرة##.
نص خطاب الاستقالة
أخوتي الأعزاء, لقد استدعيتكم اليوم لهذا المجلس الكنسي, ليس فقط من أجل الأمجاد الثلاثة, لكن لكي أبلغكم قرارا علي قدر كبير من الأهمية في تاريخ الكنيسة. بعد أن راجعت ضميري مرات عدة أمام الله, وقد وصلت إلي التأكد من أن قواي لم تعد تحتمل القيام بمهام الكنيسة البطرسية بسبب تقدمي في العمر.
إنني واع بأن مهام الكنيسة البطرسية, لما لها من أهمية روحية جوهرية, يجب أن تقام ليس فقط بالكلمات والأفعال, ولكن أيضا بالصلوات والمعاناة.
في عالمنا اليوم الذي هو عرضة لتغيرات هائلة, ويهتز بأسئلة ذات صلة عميقة بحياة الإيمان, فلكي تحكم قارب الكنيسة البطرسية, وتنادي بالإنجيل, فإن قوة العقل والجسد ضروريتان, القوة التي وهنت وتدهورت في الشهور القليلة الماضية, إلي الدرجة التي أدركت فيها عدم قدرتي علي الوفاء بالتزاماتي الموكلة إلي لإدارة شئون الكنيسة. لهذا السبب وبوعي تام بخطورة هذا الأمر وبحرية تامة أعلن أنني أتنازل عن منصب أسقفية روما, كخليفة للقديس بطرس, الذي عهد إلي به كاردينالات الكنيسة في 19أبريل 2005, وبهذا فإنه ومنذ الساعة الثامنة بتوقيت روما في يوم 28فبراير 2013, سوف يصبح كرسي روما وكرسي القديس بطرس شاغرا, ومن ثم سيعقد الاجتماع السري لانتخاب حبر أعظم جديد من بين هؤلاء الذين سيكون لديهم الكفاءة.
الأخوة الأعزاء, أقدم إليكم خالص شكري لكل الحب والعمل الدي دعمتموني به خلال وجودي هنا وأنا أسألكم العذر لكل عيوبي.
والآن دعونا نعهد بالكنيسة لرعاية راعينا الأعلي, ربنا المسيح, ونناشد أمه القديسة مريم, لكي تساعد الآباء الكرادلة بعنايتها الأمومية في انتخاب حبر أعظم جديد.
فيما يتعلق بي, فأنا أتمني أن أخدم الكنيسة بإخلاص في المستقبل, من خلال حياة مكرسة بالكامل للصلاة.
تصحبك السلامة أيها الرجل العظيم والفيلسوف العالمي الكبير واللاهوتي البارز والإنسان المتواضع والرجل الصادق الزاهد النزيه والمتسق مع ذاته.. قرارك قمة المسئولية وقمة الروحانية.
ختام الكلام: العنف والإيمان بالله شيئان لا يجتمعان
البابا بنديكتوس السادس عشر