ففي الوقت الذي كانت الفضائيات تطل علينا بمشاهد من السحل والتعرية للفتيات امام مجلس الوزراء تعرى امامنا تفكير قطاعات مختلفة من المصريين والمصريات وأخص بالذكر أربعة قطاعات رئيسية . الاولى والتي تبنتها فضائيات التكفير الديني والتي ادانت “ست البنات” مشككا في لباسها ومُديناً خروجها للتعبير عن موقفها السياسي. والثاني والذي تبنته القوى الثوريه وعموم الثائرات المصريات في اعتبار ما حدث جريمة ضد الانسانية وضد حقها كمواطنه في ان تعبر عن رأيها بكرامه ودون ان تتعرض للقمع. اما القطاع الاعرض من المصريين فهو من جلس ليفكر في الرأيين السابقين غير مفضل احدهما عن الاخر بل خرج بتفسير مختلف عن تبرير القهر ، فاتجه لإنكار دلالة وتفسير ما حدث وبحث عن تفسير للبطش بالمتظاهرات مبررا بطش العسكريين بضبط الامن العام وأنه بالتأكيد كان محقاً فيما يفعل وأن ما مارسه من تعريه وسحل بالتأكيد له تفسيراته التي لم ترصدها عدسات الكاميرات .و بين هؤلاء القطاعات الثلاثة هناك قطاع اخر يرى ما حدث بعين المغترب وينكر أي دلاله او انعكاس لما يراه في شاشات التلفزيون ووضعه الخاص كمواطن يتعرض لقهر مستتر من مؤسسات الدولة ، فهذا القطاع المغترب يفصل بين النضال السياسي وذاته كطريقة دفاعية نفسية او على احسن تقدير يتعاطف انسانيا مع الضحايا ويدعو لمصر بالاستقرار. فتأسست بذلك الموجه الاولى من الخوف من الحرية وقوامها سلطوي متمثل في المجلس الاعلى للقوات المسلحه (الحامي للاستقرار) وأسس نوعية متمثله في الانثى المسحوله ( التي هي بالضروره مخطئة في فعلها) ، وأسس اجتماعية اقتصاديه طاحنه قوامها الانسحاب من الشأن السياسي.
ومره اخرى اطلت علينا الفضائيات بمشاهد للاعتداءات المنظمه على اجساد النساء وشهادات الاغتصاب الجماعي للفتيات في ميدان التحرير المعززه بتقارير حقوق الانسان. ومره اخرى تجلت مواقف ثقافية ودفاعات نفسية لا تستخدم ذات الكلمات والعبارات التبريرية التي استخدمت في واقعة ست البنات ولكن في جوهرها تتماثل مع الرغبة في إنكار الحدث نفسيا ومبتعدا عن أي تفسيرات قد تثير الرغبة في الحرية من القهر.
فجاءت الكلمات المعبره عن ما حدث اسهل مما نتوقع فهي متجذره بفكره ثقافيه منتشرة في أن البنات والسيدات لابد وان يتجنبن الاماكن المزدحمة وذلك “حرصاً على سلاماتهن” ورغبه في حمايتهن لأنهن “بالطبيعية” معرضات للتحرش!! ، وقد ذهب البعض الى اعتبار الاعتداء الجماعي وارد لأن الذين في التحرير الان هم بالضرورة غير “الشباب الأطهار” الذين قاموا بالثورة. وهم في ذلك يبعدون انفسهم عن التفكير في أي بعد سياسي للحدث. اما الكلمات الاكثر ألماً وتعبيرا عن تماهي المصريات مع واقعهم اليومي من القهر هي ” التحرش علينا حق..اية الجديد في ماحدث” ، والثاني تجلى في المسيرات النسائيه والتي اُشهرت فيها النساء الاسلحة البيضاء مهددة كل من يفكر في الاعتداء عليهن. وهكذا كشفت لنا الموجة الثانية من الخوف من الحريه نمط اخر من الانكار للاعتداءات البدنية والجنسية متمثله في انماط ثقافيه واجتماعية نوعيه جاهزة لإنكار الحدث ولتبرير القهر السياسي الاجتماعي والاقتصادي. وترافق الانكار مع خروج المصريات من مرحلة التطبيع مع التحرش الى الدفاع عن النفس في مواجهة مجتمع “خائف”.
وأخيرا الموجه الثالثه والتي عرى فيها المواطن حماده خوفنا المستتر. فجاء العنف السياسي هذه المرة ضد المواطن “الذكر” حماده. فأطلت علينا قوات الداخلية بمشهد من مشاهد السينما الواقعية التي اعتدنا على اعتبارها فيلما جرت احداثه في مكان اسطوري ، ولكن هذه المرة تم تصويره وإخراجه على الارض التي نعيش عليها.
فلم تعد تنفع التبريرات الثقافية مجديه لأنه “ذكر” رمز القوى ومُنزه عن الاحتياج للحماية ، ولم تعد التبريرات السياسية لحفظ الاستقرار صالحة للاستخدام امام جسد رجل اعزل جُرد من ثيابه ويتكالب عليه الضاربون بالأحذية . ولم يعد التبرير الاجتماعي السياسي بأنه “مثير شغب أو خارج عن القانون” تنفع، فقد وجد المصريون في حوار حمادة لأبنته راندا ..حوار اسره مصريه اصيله يحمي فيها رب الاسرة اسرته ويخفي ما حدث من عدوان على كرامته حتى يعيش مكتفياً بالاعتذار من قوات الشرطه عما سلف. فكشف هذا الحوار الأسري المصري كل ممارسات القمع السياسي والاجتماعي والاقتصادي من الدوله ووضعها في دائرة الاهتمام الشخصي والذاتي لكل اسره. فلم يعد العنف فقط بسبب النوع ذكر-انثى ، او فقط بسبب موقف سياسي ثوري بدعوى ان “السياسة مش للغلابه الباحثين عن اكل العيش” ، ولم يعد امتهان الكرامه تصح لحفظ الامن والأمان فما كان يحدث في ظلمة السجون من تعذيب للمشبوهين اصبح يحدث في قارعة الطريق للمواطن المسالم. فسقطت لدى المواطنين كل الدفاعات النفسية والتبريرات الثقافية والاجتماعية والسياسية للقهر ولم يصبح امامهم سوى الثوره لكرامتهم. فما عاد الصمت ممكناً وغدت الثورة حق والساكت عن الثوره شيطان اخرس.