بعد وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم وصعود تيارات الإسلام السياسى بشكل عام، إعتقدنا (جميعا) بأن زمن الأصوليات الدينية قد بدأ، وأن هذا الصعود سيؤدى لا محالة إلى إرساء نظم حكم دينية على شاكلة الدولة الإيرانية أو غيرها. وفى الحقيقة أن ما حدث ربما يكون العكس بمعنى أن الصعود لم يكن بداية بقدر ما يشكل نهاية الأصولية الدينية. وقد يحلو للبعض، وخاصة من خصوم الإخوان المسلمين السياسيين، إنكار هذه الفرضية والتضخيم من القدرة الأيديولوجية لتيارات الإسلام السياسى، ونتجاهل مثلا أن شعارات هذه القوى الدينية إختفت لحد كبير من الساحات العامة، فقط تظهر فى تجمعاتهم التضامنية ومليونياتهم المدفوعة لمساندة النظام.
أزعم أن المرحلة الراهنة تشهد، بصورة غير مسبوقة وغير متوقعة، هشاشة الطرح الأيديولوجى الدينى لقوى الإسلام السياسى، وبدا أكثر أن هذه الشعارات لا تقوى على الصمود إلا من خلال رشاوى سياسية كتلك التى شهدناها أثناء الانتخابات والاستفتاءات. لقد تحولت الأيديولوجيا الدينية، بفضل قوى الإسلام السياسى وليس خصومهم، إلى مسألة عادية وأرضية تحمل كل أدران العمليات السياسية بما فيها من وعود وكذب ورياء.
لا شك أن التعصب الدينى موجود وسيظل كذلك لفترة، ولكن هذا التعصب فى حد ذاته ليس حالة طبيعة لأنه يتطلب بذل الجهود من أجل تنشيطه سياسيا من خلال رشاوى أو إشاعة الفوضى والخوف من الآخر الدينى، أو حتى إرتكاب جرائم ذات طبيعة طائفية. وفى الواقع أن هذا فى حد ذاته سيكون له معنى آخر وهو عدم القدرة على بناء دولة وتأسيس مجتمع. وبكلمات أخرى فإن الأصولية الدينية لن يكون فى مقدورها التعايش مع فكرة الدولة، وحتى تنتعش وتنشط فهى فى حاجة إلى نظام هش، أى حالة اللادولة.
ومع ذلك، فإن هذا الوضع لا يخدم القوى المدنية بالضرورة، طالما ظلت هذه القوى تبنى مشروعيتها إنطلاقا من نقد تيارات الإسلام السياسى وفقط، تما كما كانت تفعل مع نظام مبارك. فما لم تسعى هذه القوى إلى تجاوز هذا الوضع وبناء شرعية سياسية تقوم على الإندماج فى دوائر مجتمعية وتمثيل مصالحها، وطرح رؤى وبدائل فعلية لمعالجة مختلف القضايا وخاصة الاقتصادية والاجتماعية، فلن تكون سوى جزء من الجماعة السياسية التى تفقد مشروعيتها بشكل متواتر. وليس غريبا الآن أن فكرة إدارة الدولة من خلال الجيش تحظى بقبول لدى العديد من الفئات الاجتماعية. والحقيقة أن هذا القبول ليس مرده عشق الجكم العسكرى، ولكن عدم الثقة فى الجماعة السياسية برمتها.
إن التحدى الذى يواجه القوى السياسية المدنية، ليس كشف فشل ورياء قوى الإسلام السياسى، فهذه مهمة تقوم بها قوى الإسلام السياسى بجدارة، ولكن البرهنة على أنها، كقوى مدنية، قادرة على الخروج بالمجتمع من النفق المظلم. كما أن على هذه القوى المدنية أن تعى بأن 25 يناير 2011 ليس إلا 25 يناير 2011، أى حدث قد مضى، وأن شرعية أى فصيل يجب أن تبدأ من الحاضر نحو المستقبل.
إ س