إن قصة الروائى المعروف ميلان كونديرا “”لن يضحك أحد” ليست قصة عن الحب ولا حتى عن الضحك بل عن الكذب. والكذب كما هو معروف أنواع بحيث أن الواحد منا يمكن أن يتمسك بالصدق وفى الوقت ذاته يمارس انواعا متعددة من الكذب. وأحيانا ما نكذب فى أشياء حتى لا نخسراحساسنا بالصدق تجاه أشياء أخرى، وهذا ما نسميه فى ثقافتنا “الكذبة البيضاء”. يقول بطل قصة كونديرا لصديقته مبررا كذبه فى بعض الأمور وصدقه فى أمور أخرى: “… كنت تتصورين بأن كذبة تعادل أخرى، لكنك مخطئة. بوسعى أن أخلق أى شئ، وأهزأ من الناس، وادبر جميع أنواع الخداع، وأفعل جميع أنواع التفاهات، وليس لدى الشعور باننى كذاب، فهذه الأكاذيب، إذا أردت أن تعتبريها كذلك فهى أنا، وكما أنا؟ بهذه الأكاذيب لا أخفى شيئا، وبهذه الأكاذيب أعبر بالواقع عن الحقيقة.. لكن ثمة أشياء لا يمكننى أن أكذب بصددها. ثمة أشياء أعرفها كليا، وأدرك معناها وأحبها. أنا لا أتسلى بهذه الأشياء. وإن كذبى فى ذلك سيكون بمثابة ذل لى، وهذا ما لا أستطيعه…”.
وهكذا إذا فالكذب قد يكون متأصلا فى تصرفات العديد منا بما فى ذلك من يتمسكون بصرامة بالصدق فى مواقف معينة، فثمة أشياء بالنسبة للبعض لا تحتمل الكذب. تماما مثل شخص مجرم يمكن ان يرتكب أفظع الجرائم، ولكنه لا يمكن أن يخون صديقا له. أو المتدين الذى يبكى فى صلواته، ولكنه، عمليا، ينتهك التعاليم الدينية التى يطالب الآخرين الإلتزام بها. وفى كل الأحوال فليس ثمة صفاء لا فى الكذب ولا فى الصدق.
وعندما كنت أقرأ القصة، فإن شيئا ما حول الأوضاع السياسية فى بلدنا لم يفارق ذهنى، وهذا الشئ هو الكذب السياسى. فمن المعروف أن علاقة الكذب بالسياسة هى علاقة عضوية. فأن يكذب السياسى فهذا ليس بالأمر المثير للاستغراب، بل بالأحرى متوقع. ولكن الملاحظ بعد “الثورة” أن مساحة الكذب صارت هائلة، كما أن الكذب لم يعد مجرد ممارسة عادية بل أصبح ضروريا لتشغيل آلات سياسية وإعلامية متعطشة لا للحقيقة، بل لكذب يثير الحماس ويدغدغ المشاعر، ويؤجج الصراعات. ولم يعد الكذب المقابل أو نقيض الصدق، لأن الصدق ذاته، فى عرف الآلات السياسية والإعلامية، لم يعد حقيقيا كما لم يعد مثمرا أو ملموسا. ونشبه ذلك بأدوات التجميل، فالمكياج، بعد استقراره فى الثقافة، لم يعد إخفاء لواقع، بل هو الواقع ذاته، أما الوجه الحقيقى فليس إلا ما يجب إخفاؤه وفق اتفاق مجتمعى.
وفى الحقيقة أننا بدأنا نتعايش مع حالة عدم اليقين هذه، لأن الشئ قد يكون ذاته وقد يكون ضده فى ذات الوقت، وبنفس القدر من الحماس. فالثورة يمكن أن تكون ثورة أو لاثورة، والديمقراطية قد تتضمن ما يخل بقواعدها وبمنتهى الديمقراطية، والدولة المدنية قد تكون هى ذاتها الدولة الدينية، والنظام السابق قد يكون هو ذاته النظام الحالى. وهكذا يصنع النظام الجديد تناسق هذه المتناقضاتبإضاعة الحد الفاصل بين الكذب والصدق، ويتطلب هذا وجود جمهور واسع يستمرئ الكذب ويستمتع به، وبشكل متواصل يثور ضد أحد أشكال الكذب والرياء ولكن ليطالب بشكل آخر. وتسهم الآلة الإعلامية الضخمة فى صناعة هذا الجمهور بدأب وإصرار غير مسبوق.
ولذا فإن سمة المرحلة التى نعيشها هى أن الكثير من الأمور الخادعة باتت “واقعية”، على الرغم من أنها لا تحظى بأى قدر من المصداقية.
إ س