قبل الإجابة أود الإشارة إلى أنّ العروبيين والإسلاميين يتجاهلون دور إنجلترا فى دعم فكرة (العروبة) لدرجة دفع المال من الخزينة البريطانية لبعض الشخصيات لتنفيذ مخطط (القومية العربية) وسأستشهد بالعروبى الكبير(هيكل) الذى نشرفى كتابه (الاتصالات السرية بين العرب وإسرائيل) برقية وردتْ من وزير الخارجية البريطانى السير إوارد جراى إلى المعتمد البريطانى فى مصرهنرى ماكماهون المسئول عن المكتب العربى جاء فيها ((تستطيع أنْ تـُقدّم أى تأكيدات تقترحها لعزيزالمصرى باسم الحكومة البريطانية أنّ الحركة العربية لابد من تشجيعها بكل وسيلة ممكنة. ويمكن لعزيز المصرى أنْ يبدأ فى تنظيم القوة التى يريدها. وأنْ تضع تحت تصرفه ألفين جنيه استرلينى إذا كنتَ ترى ذلك مفيدًا. ولك أنْ تطلب منه أنْ يظل على إتصال بمكتب القاهرة للمخابرات البريطانية وبالمعتمد البريطانى. وتتعهد له بأننا سوف نساعد حركة القومية العربية بمقدار ما يبدو من تأثيرها)) ونشأ صراع بين الدولتيْن الاستعماريتيْن (بريطانيا وفرنسا) حول من منهما يكون له فضل السبق والريادة فى إنشاء جامعة الدول العربية. والتفاصيل رواها د. عبد الرحمن البيضانى نائب رئيس الجمهورية ورئيس وزراء اليمن الأسبق الذى كتب ((أعلن مستر إيدن وزيرالخارجية البريطانى يوم 29/5/ 1941فى دار بلدية لندن أنه يدعو إلى إنشاء جامعة عربية. ووعد بمساعد هذه الجامعة. وعندئذ أسرع المسيو كاتر والمفوض الفرنسى العام بسوريا ولبنان فكتب إلى الجنرال ديجول يقول: إنّ تبنى بريطانيا لقضية الوحدة العربية يجعلها تأخذ زمام المبادرة لذلك يجدر بفرنسا أنْ تدعو إلى نفس الفكرة وتنقل محورها من بغداد والقاهرة إلى دمشق وبيروت حيث النفوذ الفرنسى. ثم ألقى مستر إيدن خطابًا أمام مجلس العموم البريطانى يوم24/2/ 42على إنشاء جامعة عربية)) (أهرام 9/8/2003) الوقائع التى ذكرها أ. هيكل ود. البيضانى أكدها المؤرخ عبدالرحمن الرافعى الذى كتب أنّ ((إنشاء جامعة الدول العربية كان بإيعازمن بريطانيا)) (مصربين ثورة 19، 52مركزالنيل للإعلام- مطابع الشروق- عام 77ص53)
هل إصرار الاستعمار على (القومية العربية) لمصلحة الشعوب (العربية) أم لأهداف أخرى؟ سؤال آخر لم يجرؤ أحد من العروبيين والإسلاميين على مجرد التفكير فيه. وبعد أنْ استلمتْ أمريكا راية الاستعمار من بريطانيا أكملتْ مخطط (التعريب) وتم التنفيذ يوم 6يوليو53أى بعد أقل من عام من سيطرة الضباط على حكم مصر، إذْ فوجىء شعبنا عن بث إذاعى جديد باسم (صوت العرب) وهنا يأتى سؤال ثالث مسكوت عنه: لماذا (صوت العرب) فى مصر وليس فى السعودية مثلا ؟ وكيف تم ذلك؟ ومن الذى فكر ودبّر وخطط ونفذ؟ تتضح الصورة بالمعلومات التى أكدتْ أنّ المخابرات الأمريكية هى صاحبة قرار إنشاء محطة صوت العرب فى مصر. وخبراء الدعاية الأمريكان ساعدوا فى إنشائها وتزويدها بكل الأجهزة اللازمة لتشغيلها (حبال من رمال- تأليف ويلبركرين إيفلاند- ترجمة على حداد- دار المروج) المؤلف مستشار فى هيئة التخطيط السياسى للبيت الأبيض ووزارة الدفاع الأمريكية. وذكر معلومات تساعد على تجميع عناصر الصورة منها أنّ كيم روزفلت ضابط المخابرات الأمريكية تعامل منذ عام 50مع ثلاثة صحفيين هم محمد حسنين هيكل والأخوين مصطفى وعلى أمين (ص207) وأنّ الإدارة الأمريكية هى التى ساعدتْ ((عبدالناصر ليكون رجل الساعة)) (ص202) وأنّ مايلز كوبلابد مؤلف كتاب (لعبة الأمم) قال ((عبدالناصر سيصبح قريبًا المتكلم باسم القومية العربية)) وأنّ المخابرات الأمريكية ((تـُقدّم المساعدات السرية لعبدالناصر)) هذا غيرمساعدة أمريكا لضباط يوليو بالسلاح حتى يتم خروج الإنجليز من مصر. أما الهدف الثانى من الأسلحة الأمريكية لضباط يوليو فهو((تطوير قدرة مصر على ضبط الأمن بالداخل)) {لقمع أى احتجاج شعبى} ويعترف رجل المخابرات الأمريكى إيفلاند ((إننا نحن الأمريكان جعلنا من عبدالناصر عملاقـًا)) هذا العملاق ارتكب فى حق شعبنا جريمة لم يجرؤالغزاة (من الهكسوس إلى الإنجليز) على ارتكابها، أى شطب اسم مصرلتكون الجنسية الحروف الثلاثة الشهيرة ج. ع. م مع بدء الوحدة الفوقية مع سوريا فى فبراير58لذا لم تكن مصادفة أنْ يقف أمام الشعب السورى فى ساحة الجلاء أمام قصرالضيافة فى دمشق يوم 9/3/58ليقول ((كنا نشعربكم فى هذه المنطقة من العالم وقد عزلونا عنكم وأرادو أنْ يقيموا فى مصربلدًا يتنكرلعروبته وينتمى إلى الفرعونية)) ثم يُكررنفس المعنى فى خطاب22/7/59) (مجلد مصلحة الاستعلامات ص55، 468)
أعتقد أنّ المشروع الأنجلوأمريكى من (القومية العربية) و(تعريب مصر) لتحقيق هدفيْن: (1) ضرب الخصوصية القومية لكل شعب من شعوب المنطقة (2) هدم مبدأ الاعتماد على الذات لترسيخ أكذوبة (الوحدة العربية) ولتحقيق ذلك روّج الإعلام الناصرى لشعار(مصرلا شىء بدون العرب. والعرب لا شىء بدون مصر) وهذا الشعار إهانة للعرب بقدرما هو إهانة لمصر. ورغم الكوارث التى جلبها النظام الناصرى على شعبنا كرّر هيكل نفسه وقال فى قناة الجزيرة فى يونيو 2009أنه ((يستحيل الدفاع عن الأمن الوطنى المصرى بدون حزام قومى عربى)) وكأنه يُقدّم اكتشافا فى حين أنه يبيع بضاعة قديمة إذْ كتب فى عام 73((إنّ طاقة مصر وحدها لا تستطيع إحراز النصر المرتجى فى الصراع الراهن فى أزمة الشرق الأوسط)) (أهرام 6/7/73) لم يكتف هيكل بإنكار قوة مصر الذاتية وإنما وصفها فى نفس المقال بأنها ((شظية اسمها مصر)) ونظرًا لإيمانه بالوحدة العربية قال ((لا مستقبل للكيانات الشظايا. شظية اسمها السعودية. وشظية اسمها ليبيا إلخ)) وفى الأسبوع التالى كرّرنفسه ولكن بمزيد من الهدم لمبدأ الاعتماد الذات لأية دولة فذكر لو أنّ ((كل بلد عربى وجد الوسيلة لتنمية مستقلة، فمعنى ذلك أننا سندخل فى عصر المنافسة الطاحنة بين الضعفاء)) والنتيجة كما ذكر بالحرف ((شظايا تصطدم مع الشظايا. فتات يأكل الفتات)) ولشدة ولعه باللعب بالألفاظ أضاف ((إننا إذا لم ننجح فى التنمية المستقلة وقعنا فى الخطر. وإذا نجحنا فى التنمية المستقلة وقعنا فى الأخطر)) لقد أضحكنى هيكل عندما سمعتُ أحاديثه فى قناة الجزيرة وربطتها بمقالاته فى الأهرام فهوإذْ يرى فى 2009أنّ مصر لاشىء بدون العرب كتب فى عام 73أنّ ((الأمة العربية أمامها فترة محدودة- ثلاث سنوات أو خمس على أكثر تقدير- فإذا لم تستطع خلالها أنْ تبدأ بنوع من العمل العربى وتختم بنوع من الوحدة العربية، فإنّ هذه الأمة سوف تفقد مكانها على الخريطة السياسية للعالم الجديد. بل أكاد أقول أنها مُهدّدة بفقد مكانها على الخريطة الجغرافية لهذا العالم أيضًا. وسوف تكون عاجزة عن مواجهة التحدى الإسرائيلى القائم فعلا)) (أهرام 13/7/73) فإذا أخذنا الحد الأقصى الذى حدده هيكل لفقدان الأمة العربية لمكانها (والأدق لغويًا مكانتها) فإنّ المدة تنتهى فى عام 1978فما حالته العقلية فى2009 وهويبيع بضاعته القديمة لقناة الجزيرة عندما أصرّعلى أهمية العرب لمصرلحماية أمنها القومى بعد أنْ فقدوا مكانتهم حسب قوله. بل إنه كرّرنفسه مع السيدة لميس الحديدى فى أواخرعام2012 عندما قال إنّ مصر لاتستطيع أنْ تعتمد على مواردها بدون الاعتماد على الخارج (ولم يُحدّد المقصود بالخارج) لقد تصوّرأنّ كل مستمعيه من دراويش الناصرية. ولم يضع احتمال وجود عقل حري ُفكر، إذْ كيف نهضتْ اليابان وكوريا وليس لديهما الموارد الطبيعية المتاحة لمصر؟ وأنّ الهند والصين وبعض دول أمريكا اللاتينية حققوا التنمية بعد تحدى الرأسمالية العالمية. وهيكل 2012يتجاهل ما كتبه على لسان عبدالناصر يوم 29/8/65أنّ العرب يُتاجرون بالشعارات ((وبالتالى فإنّ ج.ع.م (أى مصر) ستجد نفسها مضطرة إلى الانسحاب من مؤتمرات القمة لتحل مسئوليتها التاريخية وحدها)) وعن فلسطين قال ((نحن جميعًا لا نملك خطة لتحرير فلسطين ولا نملك الوسائل لتحقيق ذلك)) (هيكل- الانفجارص 207، 208) وهيكل يتجاهل أنه أثناء العدوان الثلاثى على مصرفإنّ الطائرات البريطانية كانت تضرب بورسعيد من مطار الحبانية بالعراق (صحيفة الشعب 25/11/56) ويتجاهل أنّ عبد الناصرقال لإيدن (إذا اعتديتم علينا سنستعين بالاتحاد السوفيتى) (صحيفة الشعب 29/11/56) فلماذا لم يقل سنستعين بالعرب؟ هل لأنّ نبى العروبة أكثرواقعية من الصحابى الأول؟ وهيكل 2012يتجاهل ماكتبه هيكل1998 إذْ ذكرأنّ الجيوش العربية سلمتْ قيادتها للجنرال جلوب الإنجليزى وأنّ بعض الجيوش العربية تخلتْ عن مساعدة الجيش المصرى فى معارك النقب وغيرها فى شهرىْ نوفمبروديسمبر48 (هيكل – العروش والجيوش- دارالشروق عام98ص445) وهيكل الذى روّج لمقولة أنّ مصر بدون العرب شظية هو الذى كتب أنّ ((الصراع العربى الإسرائيلى فى جوهره صراع بين (الكم) العربى و(الكيف) الإسرائيلى. قد يكون العرب مائة مليون ولكنهم بعيدون عن روح العصر ولهذا لايلحقون به)) (أهرام 8/6/73) وباعتراف هيكل فإنّ السعودية بها 1600خبيرعسكرى بريطانى وأمريكى (الانفجارص241)
تحت سنابك (الوحدة العربية) المزعومة اعتدى جيش صدام على الكويت. واعتمدتْ الكويت على الأمريكان لتحرير أراضيها. واليمن الذى راح فى سبيل (تحرّره) أرواح مصرين ويمنيين على يد الجيش الناصرى، انقسم إلى (دولتيْن) ولايزال على سالم البيض آخر رئيس لليمن الجنوبى قبل الوحدة مع الشمال عام 90يُعلن رفضه المشاركة فى الحوار الوطنى لإعادة فصل الجنوب. وفى حواره مع الجزيرة نت قال ((إنّ مشروع الوحدة فشل منذ عام94وأنّ الجنوب من حينها فى حكم المُحتل وهم الآن يُطالبون بالتحرير)) وبينما أعلنتْ حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادى أنّ مؤتمر الحوار الوطنى سيكون فرصة لحل مشاكل الجنوب، فإنّ قوى الحراك الجنوبى أعلنتْ رفضها المشاركة فى المؤتمر، وجدّدتْ دعوتها للانفصال))
فى أرشيفى عشرات النماذج عن التفكك العربى وعن القواعد الأمريكية فى دول الخليج وعن صراع الحدود بين أكثرمن دولة عربية، بل والتفكك الفلسطينى (حكومة فى غزة وأخرى فى الضفة) والعجزالعربى إزاء إبادة الشعب السورى (بغض النظرعن التحليل السياسى لأطراف الصراع) أكبردليل على أكذوبة الوحدة العربية والقومية العربية. ومع ذلك يُصرأ. هيكل على التضليل الذى بدأه منذ التصاقه بعبدالناصر. لا أنكرأنه قرأ آلاف الكتب وربما عشرات الآلاف ، ومع ذلك لم يُفكر(لاهو ولاالعروبيون والإسلاميون) فى طرح سؤال : لماذا أصرالاستعمار الأنجلوأمريكى على تعريب مصروليس تمصيرالعرب؟ إنّ مصرعرفتْ مفهوم (الدولة) state منذ أكثرمن عشرة آلاف سنة، فى حين أنّ بعض الدول العربية نشأتْ فى النصف الثانى من القرن العشرين الميلادى، فهل هذه الحقائق تساعد فى الإجابة؟ إنّ الإنجليزوالأمريكان يعملون من خلال خبراء مُتخصصين فى شتى العلوم الإنسانية. ويعلمون أنّ مدخل هزيمة أى شعب هوالقضاء على خصوصية ثقافته القومية. وصدق رئيس جمهورية مالى (ألفا أوما كونارى) فى قوله الحكيم إذْ قال سنة93 أنّ ((إنكارالخصائص الثقافية لشعب من الشعوب يُعد نفيًا لكرامته))
إ س