كنتُ في مقدمة صفوف شباب الثوار بالاتحادية، تصورت أن الأمر مجرد تصادم متظاهرين، لكن أصوات طلقات الخرطوش، والطلقات الحية أيقظتني من أحلام السلمية، كان الرصاص يتناثر حولي، تراجعت للوراء،
شهادات حي محاصر
(1)
بين لينا وعيون بندقية
لينا منير مجاهد: محامية – 20 عاما: تقول:
كنتُ في مقدمة صفوف شباب الثوار بالاتحادية، تصورت أن الأمر مجرد تصادم متظاهرين، لكن أصوات طلقات الخرطوش، والطلقات الحية أيقظتني من أحلام السلمية، كان الرصاص يتناثر حولي، تراجعت للوراء، جلست ألتقط الأنفاس على درج مدخل عمارة في شارع جانبي من الخليفة المأمون بالقرب من روكسي، هجوم من حشود تهتف «الله اكبر ولله الحمد»، أدركت أنهم إخوان، شاهدني أحدهم، فوجئت بأكثر من عشرة متظاهرين يكيلون لي الضرب من كل اتجاه وفي جميع أنحاء جسدي، عصي، خراطيم مياه، حاولت أن أحمي جسدي النحيل، تَمْتَمْتُ بالشهادتين، صرخ أحدهم: (بنت.. دي بنت…)، لم يعبأ أحد بكلامه، استمر الضرب، حاول المتحدث أن يحميني، ضمني في حضنه، وانهالت عليه العصي، صرخ أحدهم: لا تضربوا (حسن) هذا أخ لنا في الشعبة.
ردَّ الآخر.. إذا كان حسن أخًا لنا فلماذا يدافع عن البلطجية!!؟
[تشجعتُ وصرختُ: أنا مش بلطجية، أنا محامية وثورية.. وتضيف: كانت فرصة لألتقط الأنفاس، وأنظر في وجه حسن، شاب نحيل أسمر ملتح، قبل أن ألتقط لعابي.. دفع أحدهم حسن من أمامي صارخًا: خذوها..
استمر الضرب، لا أعرف كم من الوقت مضى حتى وصلنا إلى محطة بنزين (موبيل)– فيما بعد عرفت أنها في شارع الميرغني، ما زال حسن يتابعني بجوارهم ولكنه لا يشاركهم ضربي.
في محطة البنزين باب جانبي صغير بجوار «المشحمة»، على كرسي أجلسوني، سألوني: أين البطاقة، أصريت ألا أسلم بطاقتي إلا للنيابة، رد أحدهم قائلا:
“انتي قابضة كام.. وشتمنى، قلت لهم: إذا كنتم تريدون أن تعرفوا أنا مسيحية ولا مسلمة.. فأنا مسلمة. وأعطيت لهم البطاقة، لطمني أحدهم بقسوة على وجهي.. صرخت شكرًا.. تاني مرة أُضرب من الإخوان، المرة الأولى كانت في ديسمبر الماضي في معركة مجلس الشعب، صرخ في وجهي أحدهم قائلاً:
البطاقة سوف نسلمها للأمن، وسوف يعمل لكِ قضية في المخابرات، دخل رجل آخر طويل يرتدي ملابس مثل الزي الأفغاني وقام بتصويري، ثم دخل عجوز يرتدي “بدلة” وصرخ فيهم:
بتعملوا كده ليه في بنت.. ونظر إليَّ في ود قائلا: لا تخافي.. هخرجك، وأضاف أنا مش إخوان ولا أعرفهم! وأمرهم أن يخرجوني، صرخت لن أخرج إلا مع حسن، نادى هذا الرجل على حسن (يبدو هذا الرجل من رجال الأمن).
وتكمل لينا منير مجاهد: تقدم مني رجل معه سيخ حديد، نظرت إليه قائلة: أنت جاي تضربي؟ رد: لا أنا أمنع عنك الباقين الذين يريدون ضربك، أصريت على أنني لن أخرج إلا مع حسن، نادى الرجل على حسن، قال حسن: أنا لا أعرف أسوق ماكينة، رد الآخر اركب معاها ومحمد يسوق، وركبت.. دار بيني وبين حسن الحديث التالي:
حسن: اخف وجهك في ظهري حتى لا يراكي أحد.
لينا: لماذا؟
حسن: المنطقة كلها مننا، ولن يسمحوا بعبورك للجانب الآخر.
أوقفنا كمين شرطة.. سأل إلى أين؟ أجاب حسن: معنا مصابة، قال الضابط طيب خذوا بالكم، العيال ولاد….. الناحية الثانية (يقصد الثوار).. كنا نسير في اتجاه عرفت فيما بعد أننا نتجه إلى شارع جسر السويس، في الطريق شاهدت آخرين يضربونهم بعنف.. قال حسن: انظرى لهؤلاء واحمدي ربنا!
حسن: انتي نوبية
لينا: أيوة
حسن: وأنا كمان.. انتي ليه مع العلمانيين؟
لينا: قلت أنا ابنة محامية ثورية، وعالم ذرة ثوري، وجدي ثوري شيوعي!
حسن: مين جدك؟
لينا: زكي مراد المحامي، وكان بيدافع عن الإخوان.
حسن: وصلنا يا لينا، لن أستطيع أن أكمل معك.
تضيف لينا: عبرت الطريق بين الموت والحياة.. شاهدت وجوهًا أعرفها وهتافات أرددها.. سالت دموعي، وانخرطت معهم هاتفة: يسقط حكم المرشد.
اقتربتُ منها وأخذتها خارج المظاهرة، الكدمات ظاهرة، سألتها.. لينا ماذا حدث؟ حكت لي تلك الشهادة.
(2)
مها: أنا إنسان بيحب وطنه
«مها محمد».. طالبة بالجامعة الأمريكية
كانت الشمس تحاول جاهدة أن تشرق، شعاع غائم ينعكس على خيام بيضاء، يحتمي بداخلها شباب، وكأنها أعشاش طيور الكناريا، فجأة رأيت جحافل أصحاب اللحى يمزقون بالسيوف الخيام، وكأنهم غربان تأكل بيض العصافير، وتهدم أعشاش الطيور، صراخ وعويل، المفاجأة جعلت ثوار الخيام يهرعون خارجها صارخين: «ثوار أحرار.. هنكمل المشوار»، ويرد الآخرين: «الله أكبر ولله الحمد».
طلقات الرصاص والخرطوش تنهش في أجساد الثوار، مظاهرة تقترب، نسوة عجائز يصرخون: «لا إله إلا الله»، شاب يرتدي بنطلون جينز يركض نحوي، ملتح يسحل فتاة، أسرعت نحو الفتاة، حاولت أن أسحب يدها فلم أتمكن، هوى على يدي شاب آخر بالضرب بسلك حديد، أسرعت بسحب الفتاة من رجلها، استطعت أن أخلصها من أيديهم، ركضت أمامي، أسرعت أمسك بيدها، عبرت بها الطريق نحو شارع إسماعيل اللقاني، توقفنا.. فاضت عيناها بالدموع، أمسكت بيدها، كان جسدها يرتعش، أسرعت بشراء زجاجة ماء، ساعدتها على غسل وجهها، ارتشفت قليلا.. قالت: اسمى «مها..» طالبة بالجامعة الأمريكية، كنت في الاعتصام دفاعًا عن الوطن، وأكملت باكية: هم «بيعملوا كده ليه»؟ سألتها بدوري:
أول مرة تخرجي في مظاهرة أو اعتصام؟
أجابت: نعم وأنا من سكان «الكوربة»
ساعدتها للذهاب إلى منزلها، وقبل أن تصعد أول درج العمارة سألتني من أنت؟
أجبت: إنسان بيحب وطنه، تساءلت:
ولماذا تطلق لحيتك.. قلت لها مبتسمًا «جيفارا كان ملتحيا» عرفت الابتسامة وجهها وأَمْسَكَتْ بيدي وهي تقول:
وكمان بتعرف جيفارا، شاركتها الدعابة وهي تصعد نحو الأسانسير، وأنا أودعها قائلاً: كان جارنا في شبرا!!
(3)
كنيسة في حضن مسلمين
حنان فكري – صحفية، الأب رفيق جريش كاهن، وآخرين.
انقسمت مصر الجديدة إلى منطقتين أساسيتين يقطعهما شارع الميرغني، غرب جسر السويس، وشرق الاتحادية، يا إلهي نفس الاتجاهات في بيروت.
الحرب الأهلية، المنطقة الشرقية كان بها خصوم الحركة الوطنية اللبنانية (الموارنة) المتسترين برداء الدين، والمنطقة الغربية وكان يقطنها الحركات الوطنية.
في السابعة والنصف تركت مناطق المناوشات واتجهت نحو منطقة (الكوربه) التي كانت حينذاك الحديقة الخلفية للثوار حينما يتقهقرون فيجدون ثوار مصر الجديدة في استقبالهم، وويل لمن يحمل سلاحا!.
اصطحبت الزميلة الصحفية حنان فكري، ودخلنا إلى كنيسة القديس كيرلس الكاثوليكية، في الداخل تعرفنا على راعي الكنيسة الأب رفيق جريش، والطبيب صفوت برزي، والثائرة مادلين بانوب، كانت حنان فكري منسحبة من جحيم الاتحادية، تبتلع ذكريات مريرة لما حدث معها في العباسية من قبل، وكيف أُنقذت من موت محقق!.
جلسنا، تحاورنا، تحاور الأب جريش مع كنائس الجوار في كيفية تقديم المساعدة للجرحى، قدَّم لنا الشاي الدافئ، وفجأة وصلت إلى مسامعنا ضوضاء وهلعا في الخارج، الزميلة حنان أسرعت إلينا لتخبرنا بأن هناك من يقتحم الكنيسة، هرعنا جميعا نحو بوابة الكنيسة الرئيسية، صراخ وأصوات متداخلة، جسم صلب ملقى على الأرض في ساحة الكنيسة، شاب يعتلي غرفة الأمن أعلى سور الكنسية الغربي، هتفت سائلاً ذلك الشاب:
من أنت؟ أجاب: أنا ضابط شرطة أبحث عن فرد خرطوش
فتح الأب رفيق جريش الباب الرئيسي، الكنيسة يحرسها بعض الشباب، من حوارهم مع الأب جريش أدركت أنهم من المسلمين، وجدنا في ساحة الكنيسة سنجة أقرب للخنجر، سلمناها للضابط والثوار، ووجدت الفرصة مناسبة فأخذت الزميلة حنان، وخرجنا من الباب الجانبي للكنيسة، أحد الثوار قال:
ناموا هنا أفضل، قلت: لا بد أن نخرج، قال الإخوانجية يضربون بلا رحمة.. قلت:
أعرف
أخذنا د. صفوت برزي في السيارة نحو حدود المنطقة الشرقية لجسر السويس، واستقلت الزميلة حنان التاكسي نحو الأراضي المحررة.
(4)
القتل على الهوية
بيشوي تمري – طالب هندسة – اتحاد ماسبيرو:
المشهد الأول: في الساعة الرابعة عصرا دخلت روكسي عن طريق شوارع جانبية؛ لأن الجماعات كانت تسيطر على المداخل، وكانوا يُدخلون الناس بعد أن يشاهدوا بطاقاتهم الشخصية ويمنعون الأقباط، ومن يصرُّ على الدخول يُضْرَب ويُسْحَل، في الشارع الجانبي شاهدت إخونجي يهتف «الله أكبر ولله الحمد» وهو يسحل فتاة محجبة كانت تهتف رغم الضرب: «يسقط حكم المرشد».
واستمر الكر والفر والأمن يضرب المتظاهرين الثوريين، وقبل الفجر دَخَلَت ست عربات أمن مركزي منها ثلاث عربات من الجديدة التي بها صواعق كهربائية، وكانوا يضربون المتظاهرين بالخرطوش بكثافة لكي يفتحوا الطريق للإخوان من ناحية روكسي أو من ناحية المقريزي شمال ويمين وكذلك الخليفة المأمون، أي تأمين الجهات الأربعة للإخوان، وهكذا فتحوا الطريق لهم وسط كثافة في ضرب الثوار.
المشهد الثاني: استمرت الشرطة في ضربنا، وارتفع أذان صلاة الفجر، فتوقفنا وأعلنا لهم توقفنا لتأمين الصلاة، ولكنهم ما كادوا ينتهوا من الصلاة حتى أكملوا الهجوم بالحجارة والخرطوش والسيوف.
وبعد ذلك هتفنا جميعا “سلمية.. سلمية”، فردوا علينا “سلمية.. سلمية” وأضاف بيشوى: