قليلة هى الأعلام التى تملأ الدنيا وتشغل الناس.. قليلة هى الأعلام التى تحفر فى ذاكرة التاريخ مكاناً بارزاً.. من هذه الأعلام البارزة كان “نظير جيد روفائيل جاد”، أو كما يعرفه الكثيرون باسم “البابا شنودة”.
تريد الكنانة عزماً قوياً شباباً يضحى وشعباً جديداً
شباباً يعيد بناء الحدود يعيش شريفاً يموت شهيداً
من الآن هيا نبنى الحدود وننسى العداء وننسى الحقود
وإذا ما أراد الدفاع جحيماً لحرق العدو تكون وقوداً
أهذى الجموع تعالوا سوياً إلى سلم المجد نرقى صعوداً
نشيد وطنى من ديوان
البابا شنودة كتب عام 1939
قليلة هى الأعلام التى تملأ الدنيا وتشغل الناس.. قليلة هى الأعلام التى تحفر فى ذاكرة التاريخ مكاناً بارزاً.. من هذه الأعلام البارزة كان “نظير جيد روفائيل جاد”، أو كما يعرفه الكثيرون باسم “البابا شنودة”..
شخصية مصرية وعالمية رفيعة المستوى، فقد شغل بطريرك الكرازة المرقسية فى مصر والسودان وسائر أفريقيا وبلاد المهجر.. هو رجل دين بارز وشجاع صلب عميق هادئ متسامح مثقف.. كانت حياته سراً من الأسرار.. يعشق العزلة والاغتراب.. يهوى حياة الجبال والمغارات.. يعيش فى الفيافى والمفازات.. يعشق التأمل والتفكير.. سريع الخاطرة يحب الفكاهة والمزاح..
على الرغم من مكانته الدينية وعلمه الغزير، الأمر الذى جعل كتبه تصل لنحو يقارب أكثر من المائة فإن ذلك لن يثنه عن الشعر.. فقد كان شاعراً فحلاً.. تقرأ شعره فتشعر أنك فى عالم ملئ بالأسرار.. تجد فى شعره نفثة جبران خليل جبران، وتأمل إيليا أبو ماضى وصور عبدالمسيح حداد وبساطة نسيب عريضة وعمق العقاد، وبراعة المازنى، وموسيقى إبراهيم ناجى ومحمود حسن إسماعيل..
بهذه السطور قدم الأستاذ الدكتور محمد سالمان لديوان البابا شنودة الذى صدر مؤخراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فى حوالى 160 صفحة من القطع الصغير.
يضم الديوان أربعين قصيدة منها: (نشيد وطنى، أبواب الجحيم، الأمومة، غريب، همسة حب، تائه فى غربة، يا إلهى، للكون إله، توحد، أمى، فى جنة عدن…)
وقليل من تناول البابا شنودة شاعراً، كما يذكر الدكتور محمد سالمان الذى قام بجمع ودراسة لهذا الديوان، ولذا كان هذا الكتاب الذى يضم معظم شعره مع دراسة عن حياته، وأخرى عن شعره تبين مدى شاعريته وصدقه فى قصائده.
بانوراما إنسانية
يقدم الدكتور سالمان للديوان ببانوراما حياتية للبابا شنودة الذى ولد فى 3 أغسطس 1923 فى قرية سلام مركز منفلوط بمحافظة أسيوط، وتوفيت والدته بعد ميلاده بأيام قليلة وأرضعته الحاجة صابرة بالقرية، ثم انتقل إلى دمنهور ثم الإسكندرية ثم أسيوط، وبعد إتمام الشهادة الابتدائية انتقل إلى القاهرة وأتم تعليمه الثانوى بمدرسة الإيمان الثانوية بشبرا، وعن هذه الفترة يقول البابا:
“كنت أقرأ كل ما يقع تحت يدى من كتب وأنا ولد صغير 12 أو 13 سنة، قرأت كتاب طه حسين (قادة الفكر) وأنا فى هذه السن، قرأت (قصة سارة) للعقاد.. قرأت كتباً كثيرة لشرلوك هولمز.. وغيره من الآداب العربية والأجنبية”..
ويتابع قداسة البابا: “وفى عام 1939 كانت أول قصيدة شعرية منظومة، وكان عمرى آنذاك “16” عاماً ودارت القصيدة حول موضوع مولدى، قلت فيها:
أحقاً كان لى أم فماتت
أم أنى قد خلقت بغير أم
رمانى الله فى الدنيا غريباً
أحلق فى فضاء مدلهم
البابا على ليسانس التاريخ من كلية الآداب- جامعة القاهرة عام 1947 بتقدير ممتاز، وفى نفس العام تخرج من الضباط الأحتياط وكان الأول فى مدرسة المشاة، ثم عمل مدرساً صباحاً، وتخرج من الكلية الإكليريكية عام 1949.
ترهب البابا شنودة فى دير السريان بوادى النطرون، وتحول اسمه من نظير جيد روفائيل إلى الراهب أنطونيوس السريانى، وكان ذلك فى يوليو 1954، ورسم أسقفاً للكلية الإكليريكية والمعاهد الدينية والتربية الكنسية فى 30 سبتمبر 1962 باسم الأنبا شنودة، وتوج بطريركاً للكرازة المرقسية فى 14 نوفمبر عام 1971 باسم “البابا شنودة الثالث” لأنه البابا الذى يحمل رقم “3” باسم شنودة من باباوات الإسكندرية والكرازة المرقسية.
رحل قداسة البابا شنودة من عالمنا فى يوم السبت 17 مارس 2012 عن تسع وثمانين عاماً قضاها فى التأمل والفكر والعبادة والنصح، تاركاً إرثاً من الإبداع الشعرى والمؤلفات الروحية والفكرية.
● ● ●
الشاعر والمفكر
ينتقل بنا الدكتور محمد سالمان إلى القسم الثانى فى الكتاب والخاص بشعر قداسة البابا، فنجده يقول: “كان معروفاً عن قداسة البابا أنه يقرض الشعر بإتقان، فمتى بدأت هذه الملكة عن قداسته؟ وكيف قام بتنميتها وصقلها حتى أصبح بهذه القوة؟
ويجيب د. سالمان بقول قداسة البابا: “بدأت أقول الشعر وأنا فى السنة الثانية الثانوية، التى تعادل ثالثة إعدادى حالياً، وكان ذلك عام 1938، ولكننى ما كنت اسميه أبداً شعراً، حيث إننى لم أكن قد درست قواعد الشعر بعد، وكنت اعتبره نوعاً من الشعر المنثور، إلا أننى فى السنة الثالثة الثانوية بدأ اشتياقى لأن أدرس قواعد الشعر، وفعلاً وجدت كتاباً اسمه (أهدى سبيل إلى علمى الخليل) فى دار الكتب، وكنت أذهب إلى دار الكتب يومياً من الصباح، وأقضى الصباح كله مع هذا الكتاب إلى الظهيرة، فأعود إلى البيت، وأرجع مرة أخرى بعد الظهر إلى دار الكتب كى أكمل دراستى فى هذا الكتاب، ومع أن البعض كانوا يقولون: إن قواعد الشعر صعبة، إلا أننى درستها تماماً، وبسهولة من فرط اشتياقى، ودرست علمى العروض والقافية من كتاب (أهدى سبيل إلى علمى الخليل).. ودرست بحور الشعر وأوزانه وتفاعيله.. وبدأت أكتب شعراً وأطمئن إلى أنه شعر موزون يتفق مع قواعد الشعر لا أخدل من أن اسميه شعراً، وكان الشعر الذى أقرضه سهلاً، وإن وجدت كلمة صعبة أحاول أن أتفاداها بكلمة سهلة لدرجة أن بعض التلاميذ الصغار كان يحفطونه أيضاً واختار الموسيقى اللطيفة التى تناسب الشعر، أقصد الوزن الذى يناسبه، والألفاظ السهلة التى يمكن أن تستخدم، كنت أقول الشعر الرصين، وفى نفس الوقت أقول الزجل والشعر الفكاهى وألواناً من هذا النوع.
الرومانتيكى .. الناسك
غريب ألا يحظى “شاعر” نابه كالبابا شنودة بدراسات تبين ديدن شاعريته.. ولكن الغرابة تزول إذا علمنا أن الرجل لم يجر وراء الشعر.. يتصيد البيت أو البيتين إنما الشعر الذى يلهث وراءه وينساب على لسانه متدفقاً بأعذب الصور وبديع التراكيب، فضلاً عن المعنى الذى يتصف بالعمق..
لم يسع البابا شنودة أن يكون شاعراً.. ولكنه قال شعراً بالفطرة النقية والسلامة اللغوية والموسيقى الشعرية التى لازمت أذنيه منذ سنوات الصبا.. تعددت قراءات البابا شنودة وكثرت محفوظاته الشعرية.. فكان ذلك بمثابة النبع الذى تفجرت منه رؤاه الشعرية الخلاقة.
فمن بواكير قصائده تلك القصيدة التى كتبها وهو ابن الست عشرة سنة، وذلك فى ذكرى رحيل أمه.. نراه يبكى اليتم والفقد، وتنساب الدموع فى صمت على خديه، فيقول:
أحقاً كان لى أم فماتت أم أنى قد خلقت بغير أم
رمانى الله فى الدنيا غريباً أحلق فى فضاء مدلهم
أسأل يا زمانى أين حظى؟ بأخت أو بخال أو بعم
وهل أقضى زمانى ثم أمضى وهذا القلب فى عدم ويتم
وأسأل عن صديق لا أجده كأنى لست فى أهلى وقومى
المتأمل فى المقطع يلحظ فاجعة الفقد واليتم، وحالة الحرمان من حضن الأم.. حالة المرارة التى شعر بها ذلك الطفل اليتيم استطاع أن ينقلها للقارئ من خلال ألفاظ تبوح بهذه الفجيعة.. تلك الألفاظ التى امتلأت -بحروف العلة- فى إشارة واضحة إلى “علته” الكامنة وراء ذلك الفقد.. كما كان لحرف الميم المكسور فى القافية إشارة أخرى إلى انكسار ذلك الطفل بفقد عزيز لديه..
البابا شنودة شاعر مفكر.. يمكننا أن نضعه فى زمرة شعرائنا الرومانتيكيين –أحياناً- فنراه يلتقط فكرة عابرة فيتأملها بعمق ليصيغها شعراً كما فى قوله:
يا تراب الأرض يا جدى وجد الناس طرا
أنت أصلى أنت يا أقدم من آدم عمرا
ومصيرى أنت فى القبر إذا وسدت قبرا
يرى الدكتور محمد سالمان أن هذا المقطع يتناص مع العقاد فى قصيدته الرائعة “أمنا الأرض”- ربما كان هذا النتاص بوعى أو بغير وعى- فيقول العقاد:
أسائل أمنا الأرض سؤال الطفل للأم
فتخبرنى بما أفضى إلى إدراكه علمى
جزاها الله من أم إذا ما أنجبت تئد
تغذى الجسم بالجسم وتأكل لحم ما تلد (1)
والبابا شنودة شاعر ناسك عابد.. لم ينس للحظة أنه راهب.. خالع عن كاهله مفاتن الدنيا ومباهجها.. فهو يحيا حياة النسك والعبادة حتى نخاعه.
وللبابا قصائد عد أشبه ما تكون بالأدعية والتراتيل، أو هىا مناجاة لله تعالى منها قصائد “يا إلهى”، و”أحبك يارب”، والتى فيها يقول:
أحبك يارب فى خلوتى تناجى فؤادى بعمق الكلم
أحبك يارب فى ضيقتى ووقت احتياجى ووقت الألم
أحبك يارب فى توبتى ووقت البكاء ووقت الندم
ومع تلك الضراعة المقدسة التى تحلى بها وناجى بها الإله فى صفاء روحى ونقاء ذهنى.. نراه فى قصائد أخرى موجهاً الشباب إلى فضائل الأخلاق والبعد عن الرذائل التى تعمل على الحط من قدرهم.. كقصيدته “إن جاع عدوك أطعمه”، والتى يقول فيها:
إن جاع عدوك أطعمه وإذا احتاج تساعده
وبكل سخاء تعطيه ومن الخيرات املأ يده
اغفر للكل تنل خيراً من يزرع خيراً يحصده
ومن يقرأ شعر البابا شنودة يلحظ أثر الرهبنة والعزلة فى شعره.. كما يلحظ الاغتراب بشكل كبير الأمر الذى تردد صداه على مدار أكثر من قصيدة طويلة فضلاً عن المقطوعات القصيرة.. كما يلحظ المتأمل فى شعره مدى ارتباطه بالشعر المهجرى من أمثال إيليا أبو ماضى، وجبران خليل جبران، ونسيب عريضة.. وغيرهم.
وهذا الارتباط ربما يعود إلى طبيعة النشأة والتكوين الثقافى، فإذا كان الشعراء المهجريون قد تربوا فى الكنائس والأديرة والمدارس الدينية، حيث الصفاء الروحى.. فإن البابا شنودة هو كذلك نشأ وترعرع داخل الكنائس مفضلاً حياة العزلة والاغتراب عن الناس وآيات هذا الارتباط كثيرة جداً.. فعلى المستوى الدلالى تأمل قوله فى قصيدة “تائه فى غربة”:
يا صديقى لست أدرى ما أنا أو تدرى أنت ما أنت هنا؟
أنت مثلى تائه فى غربة وجميع الناس أيضاً مثلنا
نحن ضيفان نقضى فترة ثم نمضى حين يأتى يومنا
(…) لست أدرى كيف نمضى أو متى كل ما أدريه أنا سوف نمضى
أولاً تذكرنا هذه القصيدة برائعة إيليا أبى ماضى “الطلاسم” التى يقول فيها:
جئت لا أعلم من أين ولكنى أتيت
ولقد أبصرت قدامى طريقاً فمشيت
وسأبقى ماشياً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقى؟
لست أدرى (2)
والبابا شنودة عاشق للتراث بكافة أشكاله العربى والدينى والتاريخى، ولاشك فى أن التراث يشكل بعداً جديداً للتجربة الإبداعية لديه.
البابا والإيقاع الشعرى
وقام د.سالمان بإجراء إحصاء مسحى يوضح نسب استخدام البحور الشعرية فى قصائد البابا شنودة فى هذا الديوان.
ومن خلال الجدول الإحصائى يمكننا ملاحظة:
● سيطرة البحور الصافية/ البسيطة على التجربة الإبداعية للبابا شنودة. سيطرة كاملة، فلم يلجأ الرجل للبحور المركبة مطلقاً.
● على الرغم من سيطرة البحور الصافية على التجربة، فأنه لم يركب بحر الهزج، على الرغم من كونه أحد البحور المهمة فى منظومة الإبداع العربى.. وقد أخطأ عادل البطوسى فى كتابه: “البابا شاعراً” صـ19 حينما عد كلاً من قصائد “غريب”، “مريم”، “شمشون”، “فى جنة عدن” من الهزج، إنما إنما هو من مجزوء الوافر، أما “جنة عدن” فهى مزيج من الوافر والرمل.
● سيادة بحر الرمل على التجربة الإبداعية للبابا شنودة، من حيث عدد المقاطع، وذلك بنسبة 60% أو من حيث عدد الأبيات وذلك بنسبة 70.5% من إجمالى عدد الأبيات تقريباً.
● سيطرة بحر الرمل –بغنائيته المعهودة- إضافة إلى استخدامه البحور الصافية تؤكد انتماء البابا لحركة الشعر المهجرى والرومانتيكى التى تفضل هذه الأوزان على غيرها.. لما لهذه الأوزان من غنائية مفرطة تتلاءم مع التراتيل والإنشاد الدينى الذى يهدف إليها البابا فى شعره.
● لم تنزلق قدما الرجل كما انزلق المحدثون من استعمال الرجز والمتدارك بكثرة فائقة فى شعرهم، الأمر الذى جعلهما أكثر البحور استعمالاً فى العصر الحديث، أما هما لدى البابا يدخلا فى دائرة الاستعمال النادر.. مما يؤكد أن شعره يمثل سياقاً خاصاً به فى غير سياق أبناء عصره.. كما يؤكد أنه لا ينظم الشعر إلا إذا فاضت به المشاعر حقاً.
ومن خلال دراسة القافية خرج الدكتور محمد سالمان بعدة ملاحظات مهمة:
● استخدام البابا شنودة نحو ستة عشر حرفاً روياً لقصائده.
● سيطرة الحروف المجهورة على القافية له دلالة.. فالصوت المجهور أوضح فى السمع وأقوى من الأصوات المهموسة، وهذا يعنى حرص البابا على أن يكون إيقاع القافية واضحاً فى السمع، بهدف إحداث التأثير على المتلقى وجذبه إليه.
● يلاحظ أن حركة القافية قد وردت على الترتيب التالى:
السكون ثم الكسر، ويحتلان نسبة أكثر من ثلثى الإبداع الشعرى للبابا، ثم يأتى الضم فأخيراً الفتح.. ولاشك أن القافية الساكنة لها وقعها الغنائى فى نفس المتلقى، خاصة أنها قد تسبق بساكن.. فتكون القافية منتهية بساكنين.. كما فى قوله:
كل ما هو لك صمت وسكون وهدوء يكشف السر المصون
اعتزلت الناس حتى ما ترى غير وجه الله ذى القلب الحنون
● سيطرة الأسماء على القافية، فقد وردت الأفعال فى القوافى بنسبة ضئيلة الأمر الذى يعنى ثبات الفكرة لدى البابا شنودة.. كما يؤكد انتماءه للجذور العربية.. إذا تصدرت الأسماء قافية لمنظومة الشعر العربى القديم منذ العصر الجاهلى حتى عصرنا الحالى.
● يلاحظ أن البابا تأثر كثيراً بالموشحات الأندلسية.. فكثيراً ما نظم على أشكالها فتجد القافية المتنوعة فى القصيدة الواحدة.. لكل مقطع قافيته عدا بيت أو بيتين فى نهاية المقطع يتحد فى قافيته مع نهايات المقاطع الأخرى كما فى قصيدة “من ألحان باراباس”، “قم”، “الأمومة”، “هذه الكرمة”، “أبواب الجحيم”.. إلخ.
البابا شنودة مولع بالإيقاع الشعرى، الأمر الذى تأخذه الموسيقى الشعرية، فينساب وراءها.
● وعلى الرغم من شاعرية البابا المتدفقة بعذوبة وشاعرية مرهفة فأنه لم ينج من أشياء فى قصائده.. فهو -مثلاً- لم يصرع قصائده إلا القليل منها إذ وردت معظم قصائده غير مصرعه.. ومعلوم أن التصريع يعطى إيقاعً موسيقياً جذاباً فى مطلع القصيدة.
كما يلجأ البابا أحياناً للضرورات الشعرية المجازة كما فى قوله:
نحن ضيفان نقضى فترة ثم نمضى حين يأتى يومنا
لجأ البابا فى قوله (نقضى) إلى تشديد الضاد حتى يستقيم البيت عروضياً لاشك فى أن مثل هذه الهنات تؤكد صحة القاعدة التى نقيس عليها، وهى أشياء لم يفلت منها فحول الشعراء العرب قديماً من لدن امرئ القيس، وحتى عصرنا هذا، مروراً بالعصر الأموى والعباسى والعصور المتأخرة..
وقد حاول البابا شنودة الولوج للمسرح الشعرى.. فكتب مسرحيته القصيرة (فى جنة عدن)، والتى تتكون من منظرين اثنين.. وقد استوحاها من قصة (آدم وحواء) عليهما السلام وصراعهما مع الحية.. وتؤكد هذه المسرحية القصيرة على شاعرية البابا المتدفقة واستخدامه لآلية السرد القصصى، وحبك الأحداث ورسم الشخصيات وغيرها من فنية المسرحية الشعرية.
وأخيراً.. لقد ذهب البابا شنودة بجسده، ولكن بقيت روحه خالدة بيننا وبقى شعره الذى يمثل تأملاته الفكرية العميقة.. بقى شعره ليؤكد أن الشعر باق مهما توارت عن الأعين الأجساد.
الهوامش:
(1) ديوان العقاد: 148.
(2) ديوان إيليا أبى ماضى: 191.