شارلى شابلن العرب.. مات فقيراً.
الفنان العالمى “موريس شيفالييه”: يستطيع إسماعيل ياسين أن ينافس اى فنان عالمى.
قدمه فؤاد الجزايرلى للسينما فى فيلم “خلف الحبايب”.
حضر الرئيس جمال عبد الناصر افتتاح فيلم “إسماعيل ياسين فى الجيش”.
ما تستعجبش.. ما تستغربش
فيه ناس تكسب ولا تتعبش
ناس بتتعب ولا تكسبش
إحدى المونولجات اللاذعة التى ألقاها إسماعيل يس “يس” فى نقده للمجتمع والتعبير عن مظاهر الحياة الغريبة ليكون فليسوفاً اجتماعياً ساخراً منتزعاً الضحكات من قلوب سامعيه من خلال سخريته للأقدار. من أشهر الأسماء التي أطلقت عليه “بقو”، “شلاضيمو”، “سمعة” وهى كلها مستمدة من اسمه أو من صفات وجهه.. ولكن يبقى أكثرها شهرة “بقو” و”سمعة”.
اتهمه النقاد فى وقته بالسطحية ، وفسروا بساطته المفرطة على أنها تجسيد للعبط والهبل والسذاجة المفرطة.. إلا أن الفنان العالمى “موريس شيفالييه” كان أكثر من قيموا وقدروا موهبته وبساطته وحضور إسماعيل يس.. فعندما شاهده 1936 قال: هذا الفنان لديه كل الصفات التى تجعله من نجوم الاستعراض فصوته يطرب، وهو منولوجست وممثل فى آن واحد.. ولو كان يجيد الفرنسية لتعاقدت معه فى الحال وجعلته يسافر معى إلى باريس. وأنا على ثقة أنه سوف ينافس هناك أى فنان عالمى، واليوم أعادوا اكتشافه ليلقبوة شارلى شابلن العرب بلا منازع كلما مرت الأيام ورغم غياب الجسد استطاع أن يكسب جمهور جديد من خلال رصيده السينمائى الضخم الذى تعدى 450 فيلم.
إسماعيل ياسين أبو ضحكة جنان حياته مليئة بالدمع، كل شيئ فى حياته قدرياً.. فجأ يعلو وفجأة يسقط.. اجتمعت فى حياته الشخصية العجائب والمتناقضات تخللها فقر وجوع وتشرد فى مقابل ثروة وشهرة.. من خلال حكاياته وأسراره ومواقفه، نعيش معه لحظات على الورق.
ولد إسماعيل يس على نخلة فى ميدان الكسارة بمدينة السويس فى 15 سبتمبر 1912. وكان الابن الوحيد لوالده، وامتداد واستمرار لاسم العائلة فكل طفل يسمى على اسم جده لهذا كان اسمه إسماعيل ليصبح الرقم (19) وأضيف إليها على إسماعيل على نخلة.
عمل والده فى تجارة الذهب، وكان مسرفاً للغاية. واستهوته حياة الليل ومجالس اللهو، باتت زوجته تعيش عيشة المر والشقاء، وداهمتها بعد ذلك الأمراض، وكانت دائماً تتشاجر مع والد إسماعيل. ولم تنجح فى إصلاحه وماتت مقهورة وبائسة، وكان إسماعيل وقتها فى السادسة من عمره، وعرف إسماعيل اليتم مبكراً. وتسرع الأيام لتقدم له مفاجأة جديدة، وهى زواج أبيه مرة أخرى، وساءت الحالة المادية لوالده، وأفلس محل الصاغة، وتراكمت عليه الديون ودخل بسببها السجن وترك إسماعيل المدرسة دون أن يكمل دراسته الابتدائية.
وينتقل الطفل إلى جدته.. وكأن الجدة “أليفة” كانت تنتظر الفرصة حتى تستطيع “أن تفش غلها” وتنتقم من زوج ابنتها فى ابنه لأنها كانت تعتقد أن أبو إسماعيل هو السبب فى قصف عمر ابنتها مبكراً. هكذا لم يتحمل إسماعيل المعاملة
السيئة من جدته وهرب من المنزل. وعمل منادياً للسيارات ومنادياً أمام محل بيع أقمشة “محل الشربتلى” وكان صاحبه يملك فونوغراف يذيع أغانى عبدالوهاب باستمرار، وكان لهذه الأغانى دور مهم فى تشكيل وجدانه.
وكان يرددها على أصدقائه ليصبح “مطرب الشعب” وعندما بلغ سن 17 أدرك إسماعيل أن أفضل طريقة لتحقيق حلمه فى الغناء أن يسافر إلى القاهرة فأضطر إلى أن يأخذ مبلغ 6 جنيهات من المكان الذى كانت جدته تحفظ فيه نقودها وسافر إلى القاهرة، وتوجه إلى مقهى التجارة، مدرسة ومعمل تفريخ الفنانين. لكنه فشل فى العثور على فرصة مناسبة. وسرقت نقوده. ورفضت ابنة خالته أن تؤدبه، وكان يبيت فى مساجد حى السيدة زينب. ساءت أموره ولم يجد مفر من العودة إلى السويس.
ولكن أحلامه لم تمت لذلك عاد من جديد إلى القاهرة تقوده الصدفة فى أحد الأيام لإحياء حفل فى منزل الشيخ “إسماعيل الفار” وهناك يتعرف بأفراد من عائلة قدرى باشا، الذين دعوه لزيارتهم فى القاهرة.
وبالفعل عاد و جمع له أصدقاؤه مبلغ ستة جنيهات. وخلال تردده على سراى قدرى باشا تعرف على المحامى “خليل حمدى” الذى اتخذه رفيقاً وسكرتيراً وكاتماً لاسراره وكاتباً. واستأجر إسماعيل حجرة فى حى السيدة زينب.
ومن خلال المحامى المحب للطرب والموسيقى انطلق إسماعيل إلى عالم الصالات، وشاهد ملك المونولوج وأكثرهم شهرة فى ذلك الوقت سيد سليمان وحفظ مونولوجاته “بريه من الستات” وشاهد حسين المليجى وهو يلقى مونولوجاته”سوسو حنتوسو” ووجد نفسه مشدوداً إلى المونولوج الفكاهى.
وانتهز فرصة دعوته لحضور إحدى الحفلات، وشرع فى غناء أغنية قديمة لعبد الوهاب ألا وهى “أيها الراقدون تحت التراب” وثار الحاضرون، لولا العناية الإلهية أنقذته فى تلك اللحظة وألقى مونولوجاً قلد فيه سيد سليمان. وكأنما أراد القدر أن يصحح لإسماعيل مساره وأن يجعله يكتشف حقيقة نفسه من خلال نصيحة محمد عبدالمنعم “أبو شينه” والذى تصادف، وكان مدعواً. نصحه أن يبتعد عن الغناء وأن يتجه إلى إلقاء المونولجات وأن يغير مذاهب الأغنيات الشهيرة، ويركب عليها كلمات أخرى. سمع إسماعيل النصيحة. وعمل بها فعلاً، وغنى أغنية عبدالوهاب باورده الحب الصافى ليصبح مطلعها “يا حلة العدس الدافى”. وأشترى أول مونولوج غنائى من الملحن اللبنانى عبدالغنى الشيخ وكان كلماتها “مات مات وعينه بتغمز للستات” فى ذلك الوقت كان هناك أكثر من إذاعة أهلية. اتجه إسماعيل للعمل بها مثل إذاعة قبولاً والباس شغال. وكانت منفذاً للشهرة.
وينجح فى الالتحاق بإحدى الصالات كمونولوجست وينتقل من حالة إلى أخرى. واستطاع أن يلتحق بفرقة بديعة مصابن والتى كانت تعد مدرسة للفن فى ذلك الوقت. وذهب للمخرج توجو مزراهى الذى رفض أن يشغله وقال له “روح أعمل عملية تجميل لتضيق بها بقك شوية، لأن وشك كله بق”.
يبحث عن جراح تجميل ولكنه لم يستطع أن يتحمل تكاليف العملية البالغ ثمنها ثلاثين جنيهاً وهو لا يمتلك هذا المبلغ الخرافى وقتها.
حقق إسماعيل نجاحاً ملحوظاً فى فن المونولوج وأصبح نمرته الشهيرة على المسارح المصرية.
وفى عام 1934 تنشئ الحكومة المصرية محطة الإذاعة الحكومية ويتقدم سمعة كغيره وينجح فى التعاقد مع الإذاعة على تقديم 4 وصلات كل شهر تتضمن كل “وصلة غنائية” 4 مونولوجات ويضمن إسماعيل مورداً شهرياً ثابتاً 16جنيهاً شاملة أجر التأليف الذى كان دائماً لأبو السعود الإبيارى كاتب معظم مونولوجاته. جمعتهما صداقة قامتعلى حب كلاهما للفن.
التقطه المخرج فؤاد الجزايرلى فى عام 1939 وقدمه للسينما فى دور صغير فى فيلم “خلف الحبايب” ثم ألتقطه على الكسار، وضمه إلى فرقته واشترك معه فى بطولة فيلم “على بابا والأربعين حرامى” و”علاء الدين والبحارة الثلاثة” كلاهما من إخراج توجو مزراحى الذى اعترض فى البداية على اشتغاله بالتمثيل.
كان هذا التعاون مع الكسار بداية حقيقية له فى السينما. لفتت إله أنظار المنتجين والمخرجين.
وتعتبر الفترة من منتصف الأربعينيات حتى منتصف الخمسينيات فترة الانتشار الحقيقى له على الشاشة الفضية. لترسخ مكانة إسماعيل كملك على عرش الكوميديا.
كان خلال هذه الفترة من حياته ينتقل بين الفرق الموسيقية فرقة يوسف عز الدين وصوره محمد وأمين عطالله وببا.
وفى عام 1949 أتيح له أنور وجدى أول بطولة مطلقة فى فيلم “الناصح”. وفى عام 1954 أطلق اسه على عنوان فيلم لأول مرة وهو “مغامرات إسماعيل يس” للمخرج يوسف معلوم وأصبح البطل الذى تقترن الأفلام باسمه.
نعم سبقه إلى هذا الاتجاه ليلى مراد ومخمثل من أصل يهودى اسمه شالوم قدمه توجى مزراحى فى فيلمان باسمه “شالوم الترجمان” و”شالوم الرياضى”. إلا أن إسماعيل يس كان الأكثر عدداً من حيث سلسلة الأفلام التى حملت اسمه لتبلغ 17 فيلماً تعاد معظمها إن لم يكن جميعها مع صديقه القديم المؤلف أبو السعود الإبيارى.
وتأتى فى مقدمة هذه الأفلام “إسماعيل يس فى الجيش” 1955. والشئ الهام هنا الظروف الاجتماعية التى صاحبت
الفيلم وظهوره بعد ثورة 1952. وقد كان الفيلم مجالاً حياً لشرح الصورة الاجتماعية الجماهيرية للجيش المصرى والتأكد على الالتحام الحتمى والتاريخى بينهما بعد طرد الملك، مما سارع الرئيس جمال عبد الناصر إلى حضور حفل افتتاح الفيلم بسينما ديانا، وهنأ إسماعيل يس ومخرج العمل فطين عبدالوهاب الذى كان ضابطاً سابقاً فى الجيش.
كان للمسرح ركن خاص فى قلب وعقل إسماعيل، فبعد رحيل نجيب الريحانى، وتوقف على الكسار، قرر إسماعيل تكوين فرقته المسرحية التى حملت اسمه عام 1954 ليساهم فى صياغة تاريخ المسرح الكوميدى المصرى، مستعيناً بتوأمه الروحى وشريك مشواره أبو السعود الإبيارى، وكانت أولى مسرحيات الفرقة “حبيبى كوكو” التى عرضت على مسرح ميامى 1961. وظلت الفرقة تقدم روائعها على مدى 12 عاماً قدم خلالها ما يزيد على 60مسرحية وكانت آخر مسرحية قدمتها الفرقة “حكاية جوز” 1966. والشئ المؤسف أنه رغم تسجيل جميع مسرحياته للتليفزيون المصرى وقتذاك، إلا أن أحد الموظفين بالتليفزيون أخطأ وقام بمسحها جميعاً، لتسجيل مباريات كرة القدم عليها، عندما كان التليفزيون يعانى فى أزمة الأشرطة. ويقول تم مسحها عمداً، رغم نفي المسئولون فى التليفزيون لهذه الواقعة.. مازال السؤال قائماً أين اختفى تراث إسماعيل يسن المسرحى؟.. لا يوجد الآن سوى فصلين من مسرحية “كل الرجالة كده” ومسرحية “يا قاتل يا مقتول”.
أما حياته العاطفية، وكادت الخيانات تكسر روحه وتقهره، وتبدو الأيام وكأنها تضفى عليه بالحب ودفء وحنان الأسرة. ففى منتصف 1944 شعر بحاجته لتكوين أسرة فتزوج من المونولوجست سعاد وجدى. لكن هذا الزواج لم يستمر سوى شهرين، فتزوج مرة أخرى من الراقصة ثريا حلمى واستمر هذا الزواج أسبوع. تزوج للمرة الثالثة عام 1945 من فوزية كمال وش السعد عليه وأم ولده يس.
حلت لسنوات العجاف والنهائية المؤلمة رغم النجاح الساحق الذى حققه إسماعيل خصومه فى فترة الخمسينيات، إلا أن دوام الحال من المحال فتعثرت مسيرته الفنية فى العقد الأخير من حياته. فقد هاجر المهرج فطين عبدالوهاب وأخيراً ودع أبو السعود الإبيارى مؤلف مسرحياته عام 1968.. هكذا وجد نفسه بلا مسرح ولا مؤلف ولا مخرج. ولم يحاول ياسين أن يبحث عن مؤلفين جدد ولم يع إسماعيل الدرس من سابقهع نجيب الريحانى ولكنه تخطاها ليقدم شخصية أكثر نضجاً من الناحية الفنية لا تضحكنا. لم يحاول ياسين أن يقدم عملاً جديداً يمك أن تمزج فيه الكوميديا مع التراجيديا، فضلاً عن موجة التغييرات الاجتماعية والسياسية التى طرأت على المجتمع وظهور جيل جديد من الممثلين سواء الكوميديين أو التراجيديين على الساحة، كذلك ظهور التليفزيون الذى بدأ مع الستينيات.. فى تغيير أسلوب نمط الحياة الفنية.. كل ذلك كان بمثابة عهد جديد أطجاح بالفنان الكوميدى.
تراكمت عليه الضرائب، وحجز على عمارته التى بناها، ويخرج من رحلة كفاحه صغر اليدين ويضطر إلى حل فرقته وإصابته بكممرض النقرس وأضطر أن يسافر إلى لبنان مثل باقى الفنانين الذين غادروا مصر فى أعقاب 1967 ليجب خطه هناك. وفى 1970 بعد وفاة جمال عبد الناصر عادت الطيور المهاجرة. وعاد إسماعيل إلى مصر
مهزوماً محطماتً ليعمل مونولوجست ويؤدى أدوار صغيرة لا تتناسب مع تاريخه.. ولم يبق بين يديه سوى المعاش الاستثنائى الذى قررته الدولة.
وجاءت القرية القاضية له برحيل فطين عبدالوهاب صديق عمره.. بكى إسماعيل بحرقة ورى بجسده التراب.. وشعر بالتعب والإرهاق.. ليرحل بعد صديقه بفترة بسيطة حوالى شهر. فى نفس الوقت، بينما كان الرئيس السادات يفكر فى تكريمه أذيع خبر وفاته 24مايو 1972 أثر أزمة قلبية حادة.. ويسقط الجسد هامداً.. لتبقى أعماله حية لأنه لا يهزم الموت.. إلا روح الفنان الحقيقى.. ولا يسعنا غير أن نردد قول الشاعر القديم:
وفى الليلة الظلماء يفتقد البدر
أصعب نكتة
أصعب نكتة فى حياة إسماعيل يس.. سئل فى آخر أيامه ما هو أصعب موقف تعرضت له؟ وأجاب: كان ابنى مريض جداً وأسرعت إلى الصيدلية لإحضار الدواء فاستوقفنى سائق التاكسى، وأصر أن أقول له آخر نكتة فاضطرت أن أضحكه برغم حالة الحزن التى تعترينى.