تتوالى أحداث الاحتقان الدينى بين أبناء شعبنا لأى سبب ولأتفه سبب، وكأنما هذا الاحتقان أشبه بزلزال لاتتوقف توابعه، فما أنْ ينتهى احتقان إلاّويتلوه آخر. ولوأخذنا الحادث الأخير فى دهشورمثالا، فسنجد أنّ السبب الظاهرى
تتوالى أحداث الاحتقان الدينى بين أبناء شعبنا لأى سبب ولأتفه سبب، وكأنما هذا الاحتقان أشبه بزلزال لاتتوقف توابعه، فما أنْ ينتهى احتقان إلاّويتلوه آخر. ولوأخذنا الحادث الأخير فى دهشورمثالا، فسنجد أنّ السبب الظاهرى مشاجرة عادية بين مواطن قبطى مسلم ومواطن قبطى مسيحى بسبب حرق قميص، وبعدها اشتعلتْ النارإذْ قام الأقباط المسلمون بالاعتداء على بيوت ومحلات الأقباط المسيحيين وسرقة ممتلكاتهم، ووصل الأمرلدرجة تهجيرالمسيحيين من القرية التى وُلدوا وعاشوا فيها. إنّ التهجيرفى حد ذاته جريمة أشنع من الاعتداء المادى، فكيف انتقلت هذه التفرقة بين أبناء شعب واحد وثقافة قومية واحدة؟ والسؤال بصيغة أخرى: لوأنّ المشاجرة كانت بين مسلم ومسلم أوبين مسيحى ومسيحى ، فهل كانت الأمورستصل إلى ما وصلتْ إليه فى دهشور؟ أعرف أنّ المشاجرات بين المسلمين والمسلمين قد تتطورإلى قتال بين عائلتيْن بتأثيرالعرب الذين استوطنوا بعض قرى مصر، ورسّخوا فيها عادة الثأرالذميمة كما قال عالم الاجتماع الكبيرد. سيد عويس. وهذا هوالاستثناء على القاعدة العامة، إذْ أنّ أية مشاجرة بين طرفيْن من ديانة واحدة تظل فى حدود طرفيْها. وفى كل الأحوال فإنّ الأمرلا يصل إلى حد التهجير.
وما حدث فى دهشورسيتكرر(منذ أحداث الزاوية الحمراء عام 72وتوابع الزلزال لم تتوقف) والسبب الاعتماد على آليتيْن تبين فشلهما: الحل الأمنى. وسبب فشله أنه يتولى الحدث بعد وقوعه. صحيح أنّ هذا دوره، ولكن المسكوت عنه هوعدم التصدى للأصوليين ومتابعة اجتماعاتهم فى المساجد والزوايا حيث ينشرون الفكرالأحادى المُعادى لغيرالمسلمين من الكتب المفروضة عليهم وتأثروا بها، مثل كتب سيد قطب بالاضافة إلى فتاوى الشيوخ المُقدّسين أمثال عمرعبدالرحمن الذين أباحوا قتل المُختلفين مع أفكارهم حتى ولوكانوا مسلمين موحدين مثلما حدث مع السادات وفرج فوده ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ . والكارثة الأكبرعندما يتبنى مسئول كبيروجهة نظرالأصوليين مثلما حدث فى الاعتداء على كنيسة الماريناب حيث قال محافظ أسوان بالحرف ((إنّ المسيحيين أخطأوا والمسلمون صحّحوا الخطأ)) وبدلامن أنْ يُقدّم إلى المحاكمة استمرفى موقعه حتى يستكمل خطة هدم الوطن .
الآلية الثانية: الاعتماد على الشيوخ والقساوسة للتهدئة (نظام المصاطب) فتكون تهدئة مؤقتة بينما يظل الرماد تحت النار المشتعلة. وبعد 25يناير2011عندما تم هدم الكنيسة التى تولت القوات المسلحة بناءها، فإنّ الأصوليين المسلمين منعوا دخول قوات الأمن، ولم يُسمح لهم بالدخول إلاّبعد موافقة الشيخ محمد حسان. فهل هناك كارثة أكبرمن ذلك مُتمثلة فى الاعتداء ليس على سيادة القانون فقط وإنما الاعتداء على سيادة الدولة نفسها، ولم تتوقف أجهزة الدولة المختلفة لتتساءل: من منح هذا الشيخ هذه السلطة وهذا التسلط؟ ولماذا التغاضى عن أفعاله وأحاديثه المؤججة لنارالاحتقان الدينى هوومن معه من كتائب تدميرالوطن المُنتشرة فى الفضائيات والأرضيات والمساجد والزوايا والصحف الخاصة والحكومية؟ إنّ الاعتماد على الشيوخ والقساوسة للتهدئة فى حالات الاحتقان الدينى هوأشبه بعلاج مريض السرطان بقرص أسبرين. فإلى متى يستمرهذا العلاج؟ ومَنْ مِنْ مصلحته الانتظارحتى يموت المريض ؟
والآن ما جذورالاحتقان الدينى فى مصر؟ إطلالة سريعة على مناهج التعليم وبرامج الإعلام تـُقدّم الإجابة. فى التعليم العام (مادة القراءة ) فرض العديد من الآيات القرآنية وعلى الطلبة المسيحيين حفظها لأداء الامتحان فيها فى نهاية العام. وفى مادة (النصوص) فرض العديد من القصائد (حفظ) التى تـُمجّد فى الحجاب وفى الأزهر، ومقرّرة على التلاميذ مسلمين ومسيحيين. وفى (مادة الرسم) يُطلب من التلاميذ (مسلمين ومسيحيين) رسم مكة والمدينة والأزهر، وتأتى الأسئلة فى نهاية العام لتتطابق مع المقررالرسمى . فما ذنب الطلبة المسيحيين فى أنْ يُفرض عليهم هذا (المنهج) البعيد تمامًا عن (الحيادية) ومراعاة معتقدات غيرالمسلمين؟ وذكرد. كمال مغيث أنّ التيارالدينى اخترق وزارة التعليم، فتقرّرتدريس كتابيْن للشيخ الشعراوى هما كتاب (معجزة القرآن) للصف الثالث الاعدادى وكتاب (الأدلة المادية على وجود الله) للصف الثالث الثانوى ((وفى هذين الكتابين تحوّل الشيخ إلى عالم فى علوم النفس والنباتات والفلزات والفلك، رغم صراحته عندما أعلن أنه لم يقرأ كتابًا منذ خمسين عامًا غيرالقرآن)) وفى نفس الوقت الذى قرّرتْ فيه الوزارة تدريس هذين الكتابيْن المُعاديين للغة العلم Science والمُكرسيْن للخرافة، تقرّرإلغاء قصة (كفاح طيبه) للأديب نجيب محفوظ والتى كانت مُقرّرة على الصف الثالث الاعدادى. هذا عن التعليم العام. أما التعليم الأزهرى فإنّ مناهجه تكريس لهدم الوطن على أساس التفرقة بين أبناء الأمة الواحدة. ويعلمهم أنّ البشرينقسمون إلى سادة وعبيد وأنّ المرأة (المسلمة) العبدة أقل من المرأة المسلمة الحرة. وعند مراجعة النصوص المُتعلقة بغيرالمسلمين اكتشفتُ انتفاء مفهوم المواطنة. فالتلميذ المصرى يُفرض عليه أنْ يتعلم ((يُمنع الذمى من أخذ المعدن والركاز(= الموارد الطبيعية) بدارالإسلام كما يُمنع من الإحياء بها لأنّ الدارللمسلمين وهودخيل فيها)) (كتاب الإقناع فى حل ألفاظ إبى شجاع- الصف الأول الثانوى الأزهرى– العام الدراسى 97/ 98وطبعة 2002، 2003ص355فى الطبعتيْن) وفى باب شروط الوقف يتعلم التلميذ أنّ الوقف الصحيح يجب ((أنْ لايكون فى محظور، أى محرم كعمارة الكنائس ونحوها من مُتعبّدات الكفار)) ثم يأتى السؤال فى نهاية العام ((هل يجوزالوقف على الكنائس أوعلى معبد الكفارأوقطاع الطريق)) (المصدرالسابق– الصف الثانى الثانوى ص309، 316) وهكذا يتعلم التلميذ (المسلم) ويترسّخ فى عقله ووجدانه أنّ الكنائس من متعبدات الكفار. وعن التفرقة بين البشريتعلم التلميذ مايلى ((يُستفاد من تقييد المُصنف بالحرائرجوازالجمع (أربع نساء) وبين الإماء بملك اليمين من غيرحصرسواء أكنّ مع الحرائرأم منفردات. ويجوزللعبد أنْ يجمع بين إثنتيْن فقط لأنه على النصف من الحر)) (ص401) ويتعلم التلميذ قتل المرتد إذا لم يتب والحربى إذا لم يسلم أويُعطى الجزية ولاقصاص بين عبد مسلم وحرذمى لأنّ المسلم لايُقتل بالذمى والحرلايُقتل بالعبد)) (الصف الثالث– من ص 172- 177)
أما الإعلام (وخصوصًا بعد انتشارالفضائيات) فهو يستضيف الشيوخ الذين يُكفرون المجتمع العصرى ويُروّجون مقولة الأصوليين عن (المجتمع الجاهلى) لأننا نتشبّه بالأوروبيين المسيحيين الكفرة. ويُحرّضون المشاهدين على عدم تحية المسيحيين وعدم تهنئتهم بأعيادهم وأنّ من يفعل ذلك فهوآثم مصيره نارجهنم. وكانت الكارثة عندما دخل الإعلام الحكومى فى منافسة الإعلام الخاص، فاستعان بنفس الشيوخ، بل إنه استضاف من خرجوا من السجون بعد يناير2011رغم اشتراك بعضهم فى جرائم قتل المُختلفين مع أفكارهم (سواء بالفعل أوبالفتوى) وحوّلهم الإعلام إلى أبطال رغم موقفهم المعادى لأبسط حقوق الإنسان. وهكذا يرتكب التوأم (التعليم والإعلام) جريمة (الاحتقان الدينى) لأنه ظلّ لعدة سنوات يُراكم لظاهرة (طغيان اللغة الدينية) التى تسارعتْ معدلاتها بعد يوليو52خاصة بعد تحويل الأزهرمن جامع إلى جامعة وإنشاء محطة إذاعة للقرآن ممولة من جميع المصريين. بل إنّ عبدالناصرعندما أراد إعداد دراسة عن إصلاح الجهازالإدارى استدعى خبيريْن أمريكيين فأعدا تقريرًا بعنوان (الإسلام والحكم) كتبا فيه ((إنّ الثقافة الإسلامية من أصلح الأسس للحكم الناجح فى العصرالحديث)) (د. سليمان الطماوى- ثورة يوليو52بين ثورات العالم- دارالفكرالعربى- عام 64ص161) وفى نفس الوقت ترسيخ العداء للعلوم الإنسانية وعلى رأسها الفلسفة إذْ يتعلم التلميذ أنه ((لايصح بيع كتب الكفروالتنجيم والشعوذة والفلسفة)) (الصف الثانى الثانوى ص 108) وهكذا يترسخ فى ذهن التلميذ المساواة بين الشعوذة والكفروالفلسفة. فكان من الطبيعى أنْ تؤدى ظاهرة (طغيان اللغة الدينية) دورها فينفعل الشباب الذى تربى فى هذا المناخ المُعادى لأبسط أشكال إعمال العقل ، مُندفعًا بتصور(فى ذهنه) أنه يُدافع عن دينه.
الحل لن يكون إلاّ إذا امتلك المسئولون شجاعة مراجعة الذات ، هذه المراجعة تـُحتم عليهم البدء فورًا بالنظرإلى جيل الأطفال (بدءًا من الابتدائى) بحيث يجلس التلميذ القبطى المسلم بجوارالتلميذ القبطى المسيحى فى حصة (الأخلاق) كبديل لحصة الدين . يتعلم التلاميذ فيها آيات من القرآن ومن الأناجيل التى تحض على حب الأسرة وقيم العطف واحترام الكبيرللصغيرإلخ بجانب نماذج من حكماء مصرالقديمة مثل حكمة الحكيم آنى لابنه ((إذا دخل عليك إنسان أكبرمنك سنـًا عليك أنْ تقف له حتى ولوكنت أعلى منه منصبًا)) وفى المراحل التالية نماذج من بوذا وكونفوشيوس. بهذا الاجراء (جلوس الأطفال بجواربعضهم) سنضمن أنه بعد 20سنة سيكون لدينا جيل مختلف عن الأجيال المُصابة بمرض (طغيان اللغة الدينية) لأنّ جيل حصة (الأخلاق) عندما يكبرلن يسأل ولن ينشغل بديانة الآخر. فهل يقبل المسئولون التحدى لصالح مصرالحضارة والتعددية ، أم سيتشبّثون بما هوقائم على طريقة (محلك سر) فيكون المزيد من الاحتقان الدينى المؤدى للمزيد من الكراهية المُتبادلة بين أبناء شعبنا، وبذلك يتم تنفيذ المخطط الاستعمارى الحريص على تفتيت وحدتنا الوطنية، لتمهيد التربة الضارة لتقسيم مصر، وهوحلم قديم مُتجدّد يتبناه كل أعداء الحضارة المصرية.
إ س