تواصل الانتفاضة السورية زخمها المتصاعد ضد نظام الأسد للشهر الثامن عشر علي التوالي, ومع ذلك ما زال النظام في مكانه يرفض السقوط, أو التنحي, فيما نظم الحالات الأخري للربيع العربي مثل تونس ومصر وليبيا واليمن
تواصل الانتفاضة السورية زخمها المتصاعد ضد نظام الأسد للشهر الثامن عشر علي التوالي, ومع ذلك ما زال النظام في مكانه يرفض السقوط, أو التنحي, فيما نظم الحالات الأخري للربيع العربي مثل تونس ومصر وليبيا واليمن سقطت سريعا بوتائر متفاوتة. ولكن بشار استطاع الاستمرار في السلطة بفعل الدعم الروسي والصيني, وأيضا بسبب تشتت المعارضة وعدم تماسكها, فالنظام يمتلك من الأسلحة ما يستطيع به سحق المعارضة, إذ يتوفر علي الدبابات والطائرات والمدفعية الثقيلة وآليات أخري تفتقدها المعارضة, كما أن جهازه الأمني الذي يتكئ عليه في إدارة الأزمة وقمع المعارضة ما زال قائما ولم يتعرض للاهتزاز إلا قليلا. غير أن ذلك كله لم يمنع المتحدث باسم البيت الأبيض من التصريح مؤخرا بأن أيام الأسد ##باتت معدودة## لتدخل بذلك معركة السيطرة علي سوريا مراحلها الأخيرة التي تشي بأنها ستكون قاسية ومؤلمة قبل أن يرحل الأسد, ولاسيما أن الآمال المعلقة علي الحل الدبلوماسي التي كانت تقول بتفاوض النظام والمعارضة للبحث عن تسوية سياسية وانتقال سلمي للسلطة باتت اليوم بعيدة المنال وشبه مستحيلة, ويزيد من هذا البعد للحل الدبلوماسي استقالة المبعوث الأممي الخاص إلي سورية, كوفي عنان, من مهامه بعد محاولات فاشلة للتقريب بين الطرفين واجتراح حل سلمي للأزمة. ومع أن المبعوث الجديد الأخضر إبراهيمي يتمتع بتجربة كبيرة في المجال الدبلوماسي, وله سجل حافل من النجاحات في ميدان الوساطات الدولية وحل الأزمات, إلا أنه من غير المرجح أن يتمكن من فك تعقيدات الأزمة السورية.
فالصراع في سورية أوغل في العنف بحيث لم يعد هناك مجال لعقد التسويات والتوصل إلي حلول سلمية, فنظام بشار الأسد قتل الآلاف من المدنيين الأبرياء, ونكل بالمواطنين السوريين إلي درجة لن يسمح له أبدا بالبقاء ضمن أي ترتيب للمرحلة المقبلة. وحتي عندما حاول كوفي عنان والتوصل إلي أرضية مشتركة ينطلق منها لتسهيل عملية انتقال السلطة فشل في ذلك بشكل لا لبس فيه. كما أن المعارضة التي راهن النظام علي تراجعها في الأيام والأسابيع الأولي للثورة ما زالت تقاتل القوات الحكومية بشراسة أكبر من السابق وقد استطاعت البقاء طيلة الشهور الماضية من القمع والتنكيل, ولذا فمن غير المرجح أن ترفع المعارضة الراية البيضاء بعدما اشتد عودها وقويت شوكتها, بالإضافة إلي ما حققته في الشهور الأخيرة من مكاسب ميدانية تمثلت في السيطرة علي مناطق مهمة داخل سورية لتصبح أكثر قدرة علي مضايقة النظام وتكبيده الخسائر. ولعل النقطة المفصلية التي صبت في صالح المعارضة هي الهجوم النوعي الذي استهدف خلية إدارة الأزمة التابعة للنظام والقضاء علي عدد من كبار المسئولين في ضربة واحدة, ففي 18 يوليو الماضي انفجرت قنبلة داخل مبني الأمن القومي وسط دمشق لتقتل وزير الدفاع داوود راجحة, ومدير خلية إدارة الأزمة, حسن تركماني, بالإضافة إلي آصف شوكت, نائب وزير الدفاع, وزوج شقيقة الأسد. وهذا الهجوم كان بمثابة الضربة القاصمة للنظام وكانت له تداعيات سياسية لا تخطئها العين, فقد كشف عن قدرة المعارضة علي اختراق الدائرة المقربة من النظام والدخول إلي مبني في دمشق يفترض أنه محوط بحراسة مشددة, بل وقتل كبار المسئولين الأمنيين المقربين من عائلة الأسد. ومن الناحية السياسية قد يمثل الهجوم لحظة مفصلية تشجع باقي أركان النظام علي الانشقاق والانضمام إلي صفوف المعارضة بعدما بدأت ركائز النظام تتهاوي وظهرت الشقوق والتصدعات علي جداره, وهو بالفعل ما شهدناه في الفترة الأخيرة مع توالي الانشقاقات الأمنية والسياسية التي كان آخرها انشقاق رئيس الوزراء, رياض حجاب.
واليوم ومع توالي التطورات الميدانية وتصاعد ضربات المعارضة بات التركيز الدولي منصبا علي مستقبل سورية ما بعد الأسد, وهو اهتمام مبرر بالنظر إلي عدم وضوح الرؤية بعد الأسد والطريقة التي ستدار بها سوريا عقب سقوط النظام. فالانقسام في صفوف المعارضة والصراعات التي بدأ بعضها يطفو إلي السطح بين أطيافها المختلفة يجعل من الصعب التنبؤ بمن سيحكم البلاد ويتولي مسئولية الإدارة, فهناك المعارضة الإسلامية الناشطة بقوة في هذه اللحظة, بالإضافة إلي بعض العناصر الخارجية التي انضمت إلي المعركة, كما أن الأشهر الطويلة من القمع والتدمير تثير مخاوف حقيقية من احتمال الدخول في صراع طائفي تغذيه مشاعر الانتقام وتصفية الحسابات, ولاسيما في ظل التقارير التي تشير إلي قيام بعض عناصر المعارضة المسلحة علي الأرض بإعدام أطراف موالية للنظام وإجراء محاكمات عشوائية تنتهي في الغالب بإعدام المحسوبين علي النظام. بل يذهب البعض الآخر إلي التنبؤ بانقسام سورية إلي دويلات, أو كيانات طائفية, وكل هذه التكهنات غير المؤكدة أثرت علي سياسات القوي العالمية تجاه سورية, فروسيا المتخوفة من اندلاع العنف والفوضي في سورية وتأثير ذلك علي أقلياتها المسلمة في المناطق الملحقة بالاتحاد الروسي عارضت القرارات الأممية الداعية إلي تنحي الأسد, أو التي تمهد الطريق لذلك. أما في واشنطن فقد عبرت إدارة أوباما أكثر من مرة عن خيبتها لاستمرار قمع المدنيين وفشل المجتمع الدولي في التحرك والتوافق علي حل ينهي معاناة السوريين, ولكنها أيضا تعي الصعاب التي تواجهها المعارضة في ظل انقسامها الواضح وعدم القدرة علي تحديد ملامح سوريا المستقبل. وعلي رغم تواصل المسئولين الأميركيين مع المعارضة السورية في الخارج وتشديدهم علي عدم السماح بدخول عناصر خارجية إلي سوريا للقتال, إلا أنهم لا يستطيعون تحديد, علي وجه اليقين, من سيمسك الحكم في سورية, ولعل ذلك ما يفسر بعض التردد في الدفع بعمل عسكري في سورية قد يوصل جماعات متطرفة إلي السلطة, ولذا يتم التأكيد دائما في الأوساط الأمريكية والدولية أيضا علي انتقال ديموقراطي للسلطة يشرف عليه السوريون أنفسهم يقود سورية إلي ديموقراطية وتعددية تحترم حقوق جميع المواطنين.
وحتي بالنسبة للذين يغريهم النموذج الليبي فإن من المهم توضيح أن الحالتين مختلفتان, ففي الوقت الذي حظي فيه التدخل العسكري في ليبيا بإجماع دولي داخل الأمم المتحدة, ترفض روسيا والصين الانضمام إلي الغرب في التوافق حول سورية, رافضتين الحديث عن أي تدخل عسكري, كما أن الولايات المتحدة التي وفرت مساعدات إنسانية وغير عسكرية للمعارضة السورية ترفض الدعوات المطالبة باتخاذ خطوات أكبر والاتجاه نحو تسليح المعارضة.
نيويورك تايمز