طرح أحد طلاب السنة الاولى بكلية الحقوق فى بإحدي الجامعات الفرنسية على أستاذه بعض الاسئلة المتعلقة بالفترات الدستورية الانتقالية عقب محاضرات السنة الاولى المخصصة لهذا الموضوع
طرح أحد طلاب السنة الاولى بكلية الحقوق فى بإحدي الجامعات الفرنسية على أستاذه بعض الاسئلة المتعلقة بالفترات الدستورية الانتقالية عقب محاضرات السنة الاولى المخصصة لهذا الموضوع .
و يجدر أن ننوه للقارئ المصرى أن الفقه الفرنسى أجاب على ذات التساؤلات المطروحة فى مصر حاليا منذ الأربعينات و الإجابات معروفة للمتخصصيين و لم تكن مغرضة ولا أيديولوجية و انما علمية محضة . لها برودة العلم – و هو ما قد يتافاف منه البعض فى مصر- و لكن لها أيضاً موضوعيته . و الأهم من ذلك هو ان تلك الإجابات قدمت حلولا فعلية لمشكلات انتقال السلطة و أثبتت التجرية فعالية و مصداقية هذه الحلول. و لم نعرف فى فرنسا فى ذلك الوقت قاضيا بمحكمة النقض أو أحد نوابها القدامى قد أعطى نفسه الحق فى الفتوى فى المسائل الدستورية الدقيقة التى لا يكفى فبها العلم بالقانون بوجه عام و انما من المتعين أن يلم بها المتخصص فى العلوم الدستورية و فى النظرية الانتقالية بوجه خاص.
هذه هى الاسئلة التى تبادر ت على ذهن طالب الحقوق الفرنسى :
ما المانع من تقوم السلطة القائمة على الفترة الانتقالية بوضع كافة القواعد التنظيمية التى تكفل سير كافة المؤسسات سيرا طبيعيا حتى نهاية الفترة الانتقالية بوضع الدستور الجديد؟ بما فى ذلك حفظ الامن العام و تنظيم انشاء الجمعية التاسيسية الجديدة؟ ففى فترات الاضطرابات السياسية من الافضل ان تكون هناك سلطة قوية تقوم باصدار كافة القرارات اللازمة لخلق و سير المؤسسات الدستورية على نحو معتاد. و كيف يمكن تفسير الثورة الحالية على المجلس العسكرى كسلطة انتقالية فى الوقت الذى لا يوجد فيه بعد فى مصر لا دستور و لا برلمان لوضع القواعد الشارعة؟
و اذهلنى الطالب بمتابعته للحياة السياسية فى مصر حين اضاف : لعل المجلس العسكرى قد فطن الان لخطائه عندما انصاع لطلبات السلفيين و الاخوان المسلمين برفض مضمون وثيقة السلمى و هو ما يفسر ظهور بعض نصوصها مرة اخرى فى الاعلان الدستورى التكميلى ( مادة ٦٠ مكرر) .فكم من الوقت ضاع فى بلادكم بلا سبب سوى الجهل أو الجشع أو الخنوع.
ثم تتوالى الأسئلة، و لماذا قاوم كما فعل فى مصر رئيس مجلس الشعب و اعضاء المجلس الحكم الصادر من القضاء الدستورى؟ و عندما أعطيته السبب الذى أبداه المعنيون بالقرار ، لم يفهم الطالب الأساس القانوني لحجة مفادها انه يجب ان نستفتى الشعب على القرار القضائي للمحكمة الدستورية . فبالنسبة لكل دارس للقانون الأحكام القضائية لها قوة و حجية الشئ المقضى و لا محل لاستفتاء الناس عليها.
و لماذا كل هذا الحرص على تواجد أعضاء ينتمون الى تيار سياسى او دينى معين بالجمعية التأسيسية لو كانت النوايا مخلصة و الطوايا نقية و تعلو على مستوى التحزب الأعمى ؟ و ما الذى يريدون إدراجه فى دستور حديث بينما كافة الدساتير الحديثة تتشابه فى المضمون؟
و هل يعترف الدستور الجديد بالشرعيات الثلاث: شرعية ألقاضى الدستورى و دوره الرقابى للبرلمان و شرعية البرلمان كمعبر عن إرادة الأغلبية و شرعية السلطة التنفيذية المختارة من الشعب؟
أجبت الطالب : هكذا تعلمنا فى الأنظمة الديمقراطية ، التعايش بين الشرعيات الثلاث ليس تهديدا للديمقراطية و لكنه تعميق لها. و القول بعكس ذلك هو رفض المفاهيم الحديثة للديمقراطية و الاقتصار على المفهوم العددى و الرجعى الوحيد الذى تخلت عنه الديمقراطيات الغربية ليحل محله مفهوم الديمقراطية الدستورية القائمة على خضوع السلطات العامة للمبادئ الدستورية العامة و لقضاء المحكمة الدستورية. فالتشكيك الدائم و المغرض فيها هو تعبير عن رفض توازن السلطات و الرقابة فيما بينها. و هو من رواسب النظم الاستبدادية و العقلية الأحادية. فلقد انخرط القضاء الدستورى فى الواقع السياسى لكافة الدول التى نحت نحو الديمقراطية و لم اسمع فى وسائل الاعلام المختلفة هجوما مثيلا لما يحدث فى مصر على قضائها الدستورى و يكفى ان اذكر ان القضاء الدستورى فى جميع الدول الاوروبية يساهم كل يوم فى اخفاق مشروعات قوانين مقدمة من الحكومات و البرلمانات دون ان يتهمه عقل مظلم او فكر سطحى بانه غير شرعى او ان يطعن فى نزاهته فهذا ما يسمى بالديمقراطية الدستورية و الرقابة على دستورية القوانين. و اذا شئنا تفادى اثار الحكم الصادر بعدم دستورية تشريع بعد تطبيقه بشهور او بسنوات فمن السهل اقامة هذه الرقابة عقب التصويت على التشريع مباشرة و قبل اصداره و تطبيقه. و هو حل لا يكلفنا شئ و يكفى ان تتبناه الجمعية التاسيسية القائمة باقتراح مشروع الدستور باقرار نظام الرقابة السابقة على دستورية التشريع حتى نتفادى ما حدث فى قانون انتخاب مجلس الشعب او الجدل العقيم حول قانون العزل السياسى ما دامت الحلول موجودة و معروفة للجميع الا للقائمين على اتخاذ القرار.
و فى النهاية فإن غياب مشكلة انتقال السلطة من الحياة السياسية العربية أدت الى غياب طرح الأسئلة الدستورية و الاجابة عليها من الفقه المصرى. و هو سبب التخبط الحالى فى الفقه الدستورى المصرى الذى غلبت فيه خصوصية التحزب على موضوعية العالم و حياده. و هى إشكاليات حلها الفقه الفرنسى منذ الأربعينات و منها حق السلطة الانتقالية فى ان تصدر قرارات شارعة حتى انتخاب المجلس التشريعى الجديد او حتى العمل بدستور جديد يحدد بصفه نهائية سلطات رئيس الجمهورية و تكييف السلطة الانتقالية هنا هو انها سلطة واقع منشئة للقانون.. فلقد غاب على معارضى الاعلان الدستورى التكميلى انه مؤقت بالطبيعة و السلطات المقررة فيه أيضاً مؤقته و حسنا فعل فى الا يحدد مهام و سلطات الرئيس الجديد التى هى من صلاحيات الجمعية التأسيسية. فعلى العكس لو جاس فى هذا المجال لكان قد افتات على اختصاص الجمعية التأسيسية التى تقوم هى و ليس المجلس العسكرى بتحديد سلطات رئيس الجمهورية الجديد و بصورة نهائية اذا تبنى الشعب مشروعها.
فى النهاية أن المؤلم أن فقهاء الدستور اصبحوا فى هذه الفترة سياسيين و خلعوا الروب الجامعى ليتشحوا بثياب السياسى غير الموضوعى و المتحزب. و هذا هو الفخ فى الدراسات الدستورية الذى لا يجب ان يقع فيه فقيه دستورى فمع الأسف بعض المقالات و التصريحات خلت من أسس علمية يعرفها المتخصصون فى الفترات الدستورية الانتقالية و اذا كان لنا علم بهذه الأسس لما كان هناك أى داع لكل هذا الزخم و كل هذا الضجيج و الانقسام بصدد شئون محسومة منذ ستين عاما على الأقل فى العلوم الدستورية.
أستاذ محاضر فى القانون الدستورى و الحريات العامة
كلية الحقوق جامعة لاروشل الفرنسية
عضو الجمعية الفرنسية للدستوريين
—
س.س