هذا كتاب ملغم شائك فى موضوعه .تفوح من صفحاته رائحة البارود تقضح فصوله بجرأة المسكوت عنه فى علاقة الفن بالدين ويرصد بدقة ومهارة وموضوعية المواقف التى وصلت فيها تلك العلاقة إلى حدود الصدام الدامى
هذا كتاب ملغم شائك فى موضوعه .تفوح من صفحاته رائحة البارود تقضح فصوله بجرأة المسكوت عنه فى علاقة الفن بالدين ويرصد بدقة ومهارة وموضوعية المواقف التى وصلت فيها تلك العلاقة إلى حدود الصدام الدامى.
إنه كتاب ( الفن الحرام تاريخ الاشتباك بين السلفيين والمبدعين ) الصادر مؤخرا للكاتب الصحفى الكبير أيمن الحكيم، الذى يتواكب صدوره مع الهجمة الشرسة من التيارات الاصوالية على الفن والتى اكتملت بصدور أحكام قضائية بحبس عادل إمام لأنه قام بفعل التمثيل وقدم أدوارا يرجع بعضها إلى أكثر من 15 عاما .
ويعترف الحكيم بأنه كان قد انتهى من إعداد فصول الكتاب وتجهيزه للطبع قبل شهور من اندلاع ثورة يناير وهى الثورة التى لن تكون فارقة فى تاريخ مصر السياسى فقط بل يبدو أنها ستكون كذلك فى مجال الفن والإبداع مع صعود التيار الإسلامى الهائل وتصدره للمشهد السياسى .وقد بدء هجوم السلفيين على أديب مصر الأكبر بوصف أدبه بأنه منحط ومنحل .ثم افتحام الداعية السلفى حازم شومان لحفل غنائى للمطرب هشام عباس فى إحدى الجامعات الخاصة بالمنصورة .ومحاولة منع الحفل وكذلك محاولات منع تصوير عدد من المسلسلات منها مسلسل باب النهار ومسلسل ذات وغيرها من تصرفات تضع الفن فى معادة للدين .ومن هنا تأتى أهمية المقدمة التى كتبها الأديب الدكتور مصطفى محمود قبل رحيلها واهدائها إلى مؤلف الكتاب وجاءت تحت عنوان (الإسلام جميل يحب الفن ) وجاء فيها :(الفن والدين كلاهما يتنافسان على القلب وما اكثر ما اصابت الغيرة رجال الدين فرموا الفن والفنانين بالكفر وما اكثر ما تصالح الاثنان فانضوى الفن خادما للدين يرسم له المحاريب ويزين السقوف وينحت التماثيل ويرتل الاناشيد .ثم جاء بعد ذلك أهل التطرف والمغالاة فحاربوا فن الرسم والتصوير والنحت وحرموه على اطلاقه …وسمعنا اليوم من يقول إن السينما حرام على اطلاقها كما أن المسرح حرام والتليفزيون حرام وكلها موجات من التطرف والتعصب لا أساس لها فى قرآن أو عقيدة وكلنا نعلم أن الرسول (ص)استمع إلى شعر الخنساء واستزده واستحسنه).
وقال مصطفى محمود إن القرآن الكريم على ترفعه وقداسته قد روى لنا جانبا جنسيا من حكاية يوسف وامرأة العزيز وكانت لمحة خاطفة للعبرة ..أما الغلاة والمتطرفون الذين يريدون تحريم كل الفنون على اطلاقها فهم من الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره وهم الجاحدون بنعمة الله حقا .ومدد الدين والفن من عين واحدة هى العين التى تنورت بها كل المظاهر وهى العين التى اخضرت بها الصحارى واذدهرت الحياة ..الفنان ورجل الدين يأخذان من يد واحدة وانما يسقط الفنان حتى يتصور أنه ياتى بما يأتى به من عند نفسه وتلك هى بداية الغواية ).
ومن خلال كلمة الراحل الكبير مصطفى محمود نرى أن الصراع سوف يظل موجود بين الفن والدين .والكتاب الذى يقع فى 194 صفحة رصد أمثلة ونماذج ساخنة من صور هذا الصراع .والذى بدأه أيمن الحكيم بالعودة إلى عام 1929 حيث يرصد المعركة التى خاضها عميد المسرح المصرى يوسف وهبى عندما عرض عليه المخرج التركى وداد عرفى القيام بدور النبى محمد حيث قامت مجلة المسرح بالهجوم على وهبى وتكفيره وتحريض رجال الدين عليه ..ومع الهجوم الشرس الذى تعرض له يوسف وهبى كتب مقالا فى الاهرام تحت عنوان ( خطاب مفتوح الى حضرات السادة العلماء وجميع الشعب الاسلامى )وشرح فيها اهمية تقديم صورة ايجابية عن رسول الإسلام ولم يهدأ الشارع المصرى إلا بعد أن قام الأزهر بإبلاغ وزارة الداخلية للحيلولة بمنع تقديم يوسف هذا الدور وقد استدعت وزارة الداخلية وطلبت منه العدول عن تمثيل الدور ووافق وأعلن ذلك فى الصحف.
وفى إطار رصد ايمن الحكيم لهذا الصراع يقف أمام الحكم الذى صدر عام 1996 ضد المطرب اللبنانى مارسيل خليفة لأنه غنى من اشعار محمود درويش قصيدة “أنا يوسف يا أبى” بحبسه 3 سنوات لأن القصيدة تضمنت بعض آيات من القرآن الكريم وظل خليفة مطاردا حتى عام 1999 عندما صدر حكم نهائى بعدم ملاحقته وفى اطار المطاردات التى تعرضت لها الاغانى رصد ايمن مشكلة اغنية ( من غير ليه ) لمحمد عبد الوهاب حيث صدرت فتوى من الشيخ د عبد الله المشد معتبرا أن كلمات (جايين الدنيا مانعرف ليه ولا رايحين فين ) إساءة بالغة للدين الحنيف ومرددها فى دائرة الشرك بالله ولكن امام محكمة القاهرة للامور المستعجلة نفى الدكتور المشد اصداره الفتوى .وانتقل الكتاب لرصد مطارادت الشيوخ لأغاني أم كلثوم مثل الشيخ خالد الجندى التى اعتبرها محرمات شرعا .الكتاب ثرى وممتع ومكتوب بحرفية عالية .كما أن القضايا فى مجال مطاردة الدين للفن كثيرة ومن هذا التاريخ الشائك قدم الكتاب ملفات فيلم الرسالة الممنوع من الأزهر .وكذلك مسرحية الحسين شهيدا .وفيلم المهاجر ليوسف شاهين أما الجزء الثانى من الكتاب فجاء تحت عنوان شهادات وتضمن حوارات للحكيم مع مختلف أطراف الصراع فيحاور الشيخ يوسف البدرى الذى يؤكد أن التمثيل حرام حرام .ويحاور الدكتورة نوال السعداوى التى تقول إن الإبداع لايعترف بالمقدس وغيرها .الكتاب مواجهة من الواقع الذى لايمكن أن ينتهى لأن الدين له مقايسه والفن أيضا .وسوف يظلان فى مواجهة ليس لها آخر.
==
س.س