أدي ما يطلق عليه ##الربيع العربي## إلي تغيير وجه الشرق الأوسط إلي الأبد, ولا تزال فصول ذلك التغيير مستمرة. لقد كان سقوط حسني مبارك هو التطور الأبرز في المنطقة حتي الآن بالنسبة للولايات المتحدة. فمصر منذ عام 1977
ملخص تنفيذي
أدي ما يطلق عليه ##الربيع العربي## إلي تغيير وجه الشرق الأوسط إلي الأبد, ولا تزال فصول ذلك التغيير مستمرة. لقد كان سقوط حسني مبارك هو التطور الأبرز في المنطقة حتي الآن بالنسبة للولايات المتحدة. فمصر منذ عام 1977 هي حليف استراتيجي للولايات المتحدة, حيث توفر الدعم السياسي الجوهري للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط, وشريك مهم لصنع السلام مع إسرائيل في منطقة معادية.
هناك عدة اتجاهات رئيسية يجب مراقبتها عبر مصر, ومن ثم في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وسوف يعمل بعض هذه الاتجاهات علي تشكيل مصر خلال الأشهر والسنوات القادمة:
صعود جماعة الإخوان المسلمين.
فاز ##حزب الحرية والعدالة## – الذراع السياسي لـ جماعة الإخوان المسلمين – بنسبة 46% من إجمالي المقاعد البالغ عددها 508 مقاعد في ##مجلس الشعب## خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة في مصر. وكانت الجماعة تزاول نشاطها في ظل عهد مبارك ولم تكن تتعرض لنفس الاضطهاد الذي تعرضت له بعض المنظمات الأكثر ليبرالية في مصر. والواقع أن ##حزب الحرية والعدالة## ظهر عقب الثورة باعتباره المؤسسة السياسية الرائدة في الدولة, حيث كان يمتلك بالفعل تنظيما هرميا وبنية تحتية ورسالة. وكانت جماعة الإخوان تحظي بميزة هائلة بالفعل; فقد أصبح المجتمع المصري علي مدار عقود محافظا ومتدينا بشكل متزايد. وجماعة الإخوان أبعد ما تكون عن الاعتدال. ولبيان ذلك نذكر أن محمد بديع, المرشد العام لـ الجماعة الذي أمضي بعض الوقت في السجن مع سيد قطب, أحد مؤسسي جماعة الإخوان, تنبأ في 29 ديسمبر 2011 بأن الحكومة الإسلامية في مصر سوف ##تقود خلافة راشدة تهدي العالم##.
مفاجأة السلفيين
فاز الإسلاميون المحافظون بنسبة 27% من مقاعد ##مجلس الشعب##, وهي نسبة مذهلة. وعند ضم هذه النسبة إلي المقاعد التي فاز بها ##حزب الحرية والعدالة## نجد أن الإسلاميين فازوا بنحو 75% من مقاعد ##مجلس الشعب##.
ولو كانت جماعة الإخوان المسلمين معتدلة بالفعل, فإن ذلك لن يستمر طويلا; حيث سيعمد السلفيون إلي الهجوم علي الجماعة من اليمين والضغط عليها لتبني تشريعات اجتماعية أكثر تحفظا. وفي ديسمبر 2011, كنت من بين مراقبي الانتخابات في محافظة المنوفية بدلتا النيل, وسنحت لي الفرصة للحديث مع العديد من السلفيين. وقد ناقشنا التغيرات العديدة التي ستطرأ علي مصر, بما في ذلك فرض الجزية علي غير المسلمين, وتغطية أوجه تماثيل الفراعنة بالشمع (لمنع عبادة الأوثان المحظورة), وحظر الكحول وإلزام المرأة بارتداء الحجاب وتطبيق الحدود, قطع أيدي السارقين. ويتفق السلفيون مع جماعة الإخوان حول تأسيس الخلافة الإسلامية. ولا يكمن الفرق الجوهري بين الجماعتين في المحظورات التي فرضها الإسلام, لكن في مدي سرعة أو حدة تنفيذ قواعد الشريعة الإسلامية. إن المستجدات التي نراها علي الساحة المصرية حاليا لا تعكس بالضرورة حالة الديمقراطية وإنما تعكس ثيوقراطية تنافسية.
السياسات الشعبوية بعد مبارك والتوجه المستقبلي لمصر
يزعم رئيس ##حزب العدالة والتنمية## محمد مرسي ونائبه عصام العريان بأن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي مدينان بتقديم المساعدات المالية إلي مصر, بغض النظر عن السياسات التي يتبعونها بخصوص المرأة أو حقوق الإنسان أو حماية الأقليات. وينظر إلي تلك المساعدات باعتبارها تعويضا عن دعم حكومة استبدادية في مصر أثناء عهد مبارك. ورغم المطالبة بتقديم مساعدات مالية إلا أن الإسلاميين والحكومة التي عينها الجيش في مصر يتخذون مواقف استفزازية مع واشنطن, وإسرائيل, وهو ما من شأنه تعقيد العلاقات الثنائية.
ولننظر إلي أزمة منظمات المجتمع المدني التي حدثت في وقت مبكر من هذا العام, حيث تم اتخاذ قرار بمحاكمة العديد من المواطنين الأمريكيين العاملين علي تعزيز الديموقراطية في مصر ومنعهم من السفر إلي الخارج. وهناك تصور بأن مصر ستواصل في المستقبل إثارة أزمات متعمدة, من أجل إثبات أهمية الدولة بالنسبة لواشنطن وضمان استمرار المساعدات المالية الأمريكية. ولتجنب هذه المواقف أو لمنع التصعيد, سيتعين علي الولايات المتحدة والمجتمع الدولي دفع ما يمكن تصنيفه في الأساس علي أنه بدل استنفاع.
فالمصريون لديهم آراء سلبية عن الولايات المتحدة, إذ تشير استطلاعات الرأي أن 70% من المصريين لا يريدون المساعدات المالية الأمريكية. وقد يكون لهذا الاتجاه تبعات علي العلاقات الثنائية طويلة المدي, بما في ذلك حق المرور التفضيلي للولايات المتحدة عبر قناة السويس وحق تسيير رحلات جوية بعد إعطاء تحذيرات محدودة والحفاظ علي معاهدة السلام مع إسرائيل.
معاهدة السلام مع إسرائيل
أشارت جماعة الإخوان المسلمين إلي أنها قد تعرض معاهدة كامب ديفيد لاستفتاء شعبي. وقد أعلن عصام العريان بالفعل أنه في حالة قطع الولايات المتحدة لحزمة المساعدات المالية التي أقرتها لمصر, فمن شأن ذلك أن يؤدي إلي قيام القاهرة بإعادة النظر في المعاهدة وربما تعديلها. وقد وافق البرلمان في ربيع 2012 علي قرار غير ملزم تم التصويت عليه برفع الأيدي يعلن بأن إسرائيل هي ##العدو الأول## لمصر, ودعا إلي طرد السفير الإسرائيلي من القاهرة, وطالب بإنهاء المبيعات المصرية من الغاز الطبيعي إلي مصر. وفي أواخر أبريل, قامت مصر بتعليق مبيعات الغاز إلي شريكتها في السلام.
عودة ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## الوشيكة إلي ثكناته
ارتفعت حدة التوترات بين ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## و جماعة الإخوان المسلمين في ربيع 2012 بعد إعلان الجماعة (علي نحو يناقض تصريحاتها السابقة) عن نيتها الدفع بمرشح رئاسي وما تلا ذلك من قرار لجنة الانتخابات الرئاسية القاضي بالحرمان الدائم لمرشح الإخوان الأوفر حظا من الترشح لانتخابات الرئاسة. كما أن دعوات الإسلاميين بعزل حكومة رئيس الوزراء كمال الجنزوري التي عينها ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## , والنزاع بشأن مشاركة جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات الرئاسية, كلها أمور ساعدت علي زيادة توتر العلاقات لدرجة أن ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## هدد بقمع جماعة الإخوان المسلمين.
إن النزاع بين ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## وجماعة الإخوان المسلمين أمر حتمي, حيث يسعي كل منهما إلي تطبيق النموذج التركي في مصر. وبالنسبة لـ ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة##, فإن النموذج الذي يرغب في تطبيقه هو ذاك الذي كان سائدا قبل تولي حزب العدالة والتنمية سدة الحكم وقبل رئاسة رجب طيب أردوغان للوزارة التركية, عندما كان الجيش يعمل حارسا وضامنا للمجتمع العلماني في تركيا, حيث كان يعزل الحكومات الإسلامية من السلطة بين الحين والآخر. بيد تتطلع الجماعة إلي نموذج أردوغان, حيث يسيطر الإسلاميون علي البرلمان والهيئة التنفيذية معا, فيما يعملون علي إخضاع الجيش بمرور الوقت. وبالنظر إلي هذه الرؤي المتباينة, فإن الأمر مسألة وقت حتي تقع مواجهة حاسمة بين ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## وجماعة الإخوان المسلمين.
هل يتمتع ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## بالكفاءة؟
منذ اليوم الأول للثورة وواشنطن لديها ثقة مطلقة في كفاءة ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة##. فقد أشادت الولايات المتحدة في بداية الثورة بعدم فتح الجيش المصري النار علي الحشود. بل إن البيت الأبيض افتخر بقدرته علي ضبط النفس: حيث ذكرت الحجج حينها أن المساعدات المالية للجيش التي بلغت 66 مليار دولار أمريكي منذ عام 1979 أظهرت النفوذ الأمريكي ومنعت المزيد من إراقة الدماء. وفي الواقع لا تحظي الولايات المتحدة اليوم سوي بنفوذ محدود علي ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة##.
إن الثقة في ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## لم تكن في محلها, حيث أثبت المجلس حقيقة أنه غير كفؤ مطلقا. ففي الشهور التي سبقت تشكيل الجمعية التأسيسية, علي سبيل المثال, غير ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## قواعد تشكيلها عدة مرات, حيث أعلن في البداية أن البرلمان المنتخب حديثا هو الذي سينتخب أعضاء لجنة صياغة الدستور. غير أن الإسلاميين سيطروا علي البرلمان عقب الانتخابات. ومن ثم غير ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## رأيه وسمح للإسلاميين باختيار 20% فقط من المقاعد وقام هو بتعيين الـ 80% الأخري. وعندما احتج الإسلاميون, تراجع الجيش كلية. وتألفت اللجنة كلية تقريبا من الإسلاميين, قبل حكم القضاء بحلها, كما ارتكب ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## أخطاء فادحة في إدارة أزمة منظمات المجتمع المدني, حيث سمح بنشوء وضع منع فيه سام لحود, نجل وزير النقل الأمريكي راي لحود, من مغادرة مصر. ومن بين نقاط الفشل الأخري لـ ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## عدم قدرته علي إرساء الأمن في مصر منذ الإطاحة بحسني مبارك.
انعدام الأمن
تواجه مصر صعوبات لإعادة توطيد الأمن منذ اندلاع الثورة. كما أن الغياب شبه الكامل للسياحة والاستثمارات الأجنبية المباشرة وارتفاع معدلات التضخم بشكل خطير خلال السنة الماضية قد زادت من معدلات الفقر والإحساس الجماعي باليأس. ولذا أصبحت جرائم العنف أمرا مألوفا في مصر خلال الوقت الراهن.
كما أن ##جهاز أمن الدولة##, وهو الجهاز القمعي الذي كان يستعين به النظام السابق والمؤسسة المسؤولة عن مكافحة الإرهاب في الداخل, قد فقد الكثير من قدراته. والواقع أن ##جهاز أمن الدولة## قام بتمزيق قدر كبير من ملفاته أثناء الانتفاضة لكي ينأي بنفسه عن المساءلة. وتفيد التقارير أن المؤسسة تشهد حاليا عملية ##إعادة هيكلة##. كما أن احتمالات تحسن الوضع الأمني في وقت قريب لا تزال ضئيلة.
الإرهاب
كانت سيناء ولا تزال أرضا خصبة للإرهابيين, وقد شهد الوضع في شبه الجزيرة تدهورا مستمرا منذ اندلاع الثورة. فقد تدفق الإرهابيون – الذين فروا من السجون أثناء الثورة – مرة أخري علي سيناء, كما قامت جماعة ##أنصار الجهاد## المنتسبة إلي تنظيم القاعدة بترسيخ نفسها هناك. والنتيجة هي إقليم غير خاضع لسيادة القانون بشكل متزايد, إن لم يكن غير خاضع للحكم علي الإطلاق, يشكل فيه الإرهابيون تهديدا خطيرا. وفي أغسطس 2011, عقب الهجوم علي قسم شرطة العريش, أصدر تنظيم القاعدة في شبه جزيرة سيناء بيانا يطالب فيه بتطبيق الشريعة وإقامة إمارة إسلامية في سيناء. وخلال الشهر ذاته, وعن طريق شبكة الإنترنت, قام زعيم القاعدة أيمن الظواهري بتهنئة الإرهابيين الذي قاموا بتفجير خط الأنابيب في يوليو, وحرض أتباعه علي استهداف المزيد من الإسرائيليين. وفي وقت مبكر من هذا العام خلال شهر يناير, أعلنت جماعة ##أنصار الجهاد## عن دعمها للظواهري وعزمها الهجوم علي مصالح ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## والمصالح الأمريكية في الخارج. كما أصبحت حماس وغيرها من المنظمات الإرهابية الفلسطينية تمثل مشكلة, حيث تعبر إلي سيناء وتهاجم إسرائيل من الأراضي المصرية. وإلي جانب ما يشكله الإرهاب في سيناء من خطورة, فإنه يضعف الاقتصاد القائم علي السياحة في تلك المنطقة.
استمرار الأزمة في الاقتصاد المصري
مصر علي شفا أزمة اقتصادية, حيث تشير التقارير إلي أنه لم يتبق سوي 11 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي التي تشهد استنزافا بمعدل ما يقرب من مليار دولار في الشهر. لقد ساء اقتصاد مصر وزادت معه الصعوبات. ومع ارتفاع معدلات الفقر في مايو 2011, عقد الجنرال محمود نصر, أحد أعضاء ##المجلس الأعلي للقوات المسلحة## الحاكم للبلاد – مؤتمرا صحفيا الشهر الماضي أعلن فيه أنه إذا لم يتحسن الوضع فسوف تندلع ثورة أخري في مصر, ألا وهي ##ثورة الجياع##. لذا سيكون تحسين الاقتصاد أولوية رئيسية لـ ##حزب الحرية والعدالة## خلال الأشهر والسنوات المقبلة. وحفاظا علي الواقعية, قد تعمل هذه الأولوية الرئيسية علي إعاقة بعض التصرفات الجانحة من جانب الإسلاميين, لا سيما ما يتعلق بالتطبيق الكامل للشريعة علي المدي القصير. ورغم ذلك, لا يتضح ما إذا كانت جماعة الإخوان المسلمين الأقل فسادا والتي تتمتع بالكفاءة الاقتصادية ستمتلك القدرة علي تحسين الأوضاع الاقتصادية الصعبة القائمة منذ فترة طويلة في مصر.
ديفيد شينكر زميل أوفزين ومدير برنامج السياسات العربية في معهد واشنطن.
معهد واشنطن