خلال حملته الانتخابية في العام 2007 وعد المرشح ساركوزي بإحداث قطيعة مع السياسة الخارجية الشيراكية في حال انتخابه رئيسا للجمهورية الفرنسية.
وقد سارع إلي تنفيذ هذا الوعد بعيد انتخابه لاسيما حيال سوريا التي أعاد تطبيع العلاقة المنقطعة معها منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005, كما أنه أعاد فرنسا إلي حلف الأطلسي وإلي التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة . ويأخذ عليه خصومه أنه كان لصيقا بالسياسات الأمريكية إلي حد التبعية, الأمر الذي يذهب في عكس التقليد الديجولي القائم علي استقلالية فرنسا في سياساتها الخارجية رغم صداقتها مع الولايات المتحدة.
لكن المتابعة الدقيقة للسياسة الخارجية الساركوزية تفضي إلي الاستنتاج أنها لم تبتعد طويلا عن الخط الديجولي رغم خصوصية الأسلوب المتبع والمفردات المستخدمة في السنوات الخمس المنصرمة . فالقطيعة مع سورية عادت بعد انفراج لم يدم طويلا, والعلاقة الوثيقة مع ألمانيا خصوصا والشركاء الأوربيين عموما بقيت علي حالها رغم الأزمات, والحلف الأطلسي استفاد منه ساركوزي لتحقيق مصالح فرنسية (التدخل العسكري في ليبيا علي سبيل المثال) والموقف من الصراع العربي -الإسرائيلي- كما العجز حياله لا يزال هو نفسه منذ إعلان البندقية أيام المجموعة الاقتصادية الأوربية في العام .1980
والآن مع وصول الاشتراكي فرنسوا هولاند إلي الإليزيه, هل من تغير مرتقب في السياسة الخارجية الفرنسية خارج اللمسات والمفردات والأسلوب الشخصي للفريق الجديد؟
من اللافت أنه في المناظرة المتلفزة بين المرشحين ساركوزي وهولاند لم تحتل السياسة الخارجية أكثر من خمس عشرة دقيقة من أصل ساعات ثلاث طويلة, ما يثبت انعدام الأهمية التي يوليها الناخب الفرنسي للملفات الخارجية . ولم تكن هناك فروق واضحة بين الرجلين في النظرة إلي الخارج . فحتي الخلاف في الملف الأفغاني, حيث يؤيد ساركوزي بقاء القوات الفرنسية حتي نهاية العام 2013 ويطالب هولاند بانسحابها مع نهاية العام الجاري, لا يمكن اعتباره جوهريا . ذلك أن هولاند وافق علي أن سحب المعدات الثقيلة قد يتطلب وقتا أطول, الأمر الذي يوفر له فرصة التراجع عن هذا الوعد, لاسيما إذا اصطدم بمعارضة حلف الأطلسي .
أما بالنسبة إلي سورية فقد أيد هولاند انضمام بلاده إلي حملة عسكرية ضدها إذا ما صدر قرار أممي بذلك.
وفي الملف الإيراني ما من خلاف بين اليمين واليسار الفرنسيين, ساركوزي يؤيد الاعتماد علي الطاقة النووية في فرنسا بسبب ارتفاع أسعار الطاقة الأحفورية ويعارض امتلاك إيران للطاقة النووية.
أما هولاند فوعد بإقفال أحد المفاعلات الذرية الفرنسية وبالحد من استهلاك الطاقة النووية كما طالبه أنصار البيئة, ما يعني أنه لن يكون مؤيدا للذرة في إيران.
وفي ما خلا ذلك فلم يكن هناك من ملفات خارجية كبري خلال المعركة الانتخابية إن كان لجهة العلاقة مع روسيا أو الصين أو الدول الناشئة أو حتي الولايات المتحدة.
أكثر من ذلك غابت الثورات العربية عن النقاش رغم الأهمية الكبري للمنطقة المحاذية لأوربا, والتي منها يتوجه المهاجرون إلي فرنسا, حيث احتل ملف المهاجرين مكان الصدارة في الجدل الانتخابي.
أما بالنسبة إلي القضية الفلسطينية فموقف باريس لن يتغير إذ إنها, كما قال هولاند, تفضل اعترافا دوليا بالدولة الفلسطينية علي اعتراف فرنسي منفرد.
الملف الخارجي الأهم الذي ساد النقاش الانتخابي كان له صبغة داخلية واضحة, وهو أزمة اليورو والعلاقة مع الشركاء الأوربيين. فقد وعد هولاند بالعودة إلي المفاوضات معهم لتعديل بعض الاتفاقيات, ولاسيما تلك المتعلقة بالعجز المالي, بهدف التخلي عن سياسة التقشف القائمة وتبني سياسة نمو اقتصادي كانت عماد برنامجه الانتخابي.
هنا من المتوقع أن يواجه هولاند صعوبات في العلاقة مع انجيلا ميركل التي تستعد للقائه غداة تسلمه مهامه, فهي تعارض رؤيته لحل أزمة اليورو وتصر علي الاتفاق المتعلق بالتقشف وضبط العجز المالي. ويأمل هولاند أن يكون انتخابه بداية لعهد يعود فيه اليسار إلي الحكم في الدول الأوربية الأخري, الأمر الذي سيغير وجه الاتحاد الأوروبي, كما قال أكثر من مرة.
عندما وصل الاشتراكي فرنسوا ميتران إلي الإليزيه عام 1981 سمعنا كلاما كثيرا عن سياسة خارجية جديدة تقطع مع خصمه اللدود شارل ديجول, وتنأي في الوقت نفسه عن الإمبريالية الأمريكية . لكن لم ينقض وقت طويل حتي بدأ المعلقون الأمريكيون يكتبون بأن اليسار الفرنسي أقرب إلي الولايات المتحدة من اليمين . كان ذلك في عهد الرئيس ريجان الأكثر تشددا وإمبريالية من بين رؤساء أمريكا حتي ذلك الحين . كذلك كانت علاقة ميتران مع مارجريت تاتشر ومع هلموت كول وهما من اليمين . وفي حين لم يخف ميتران يوما إعجابه بـ##إسرائيل## وصداقاته مع زعمائها, فإنه أول من انفتح علي ياسر عرفات وأسهم في الاعتراف الدولي بمنظمة التحرير رغم معارضة ريجان . في المحصلة وصفت سياسات ميتران الخارجية بالديجولية بامتياز.
مع شيراك كان من الطبيعي أن تسود الديجولية مجددا ولو بأسلوب متميز . وصف الرجل بصديق العرب فأهانه ##الإسرائيليون## خلال زيارة له إلي القدس العام 1996, لكنه لم يخرج عن السياسة الفرنسية التقليدية حيال الصراع العربي – ##الإسرائيلي## ولم يتمكن من دفع التسوية قيد أنملة فبقيت الولايات المتحدة صاحبة القرار في هذا الملف . والأمر نفسه استمر مع ساركوزي المقرب من اليهود والذين جاهروا بتأييدهم له في انتخابات العام 2007, ومن المؤكد أن هولاند, الذي لا يملك رؤية خاصة به في السياسة الخارجية, سوف يستمر علي خطي الأسلاف.
في الأسبوعين المقبلين سوف يتعرف هولاند علي زعماء كبار لم يسبق له التفاعل معهم, لأنه لم يحتل منصبا واحدا في حياته يتيح له مثل هذه الفرصة. في مؤتمري مجموعة الثماني ##G8## وحلف الأطلسي المقبلين, ستكون إطلالة هولاند الأولي علي العالم الخارجي والدرس الأول الذي يتلقاه في السياسة الخارجية, والتي علي الأرجح لن تعرف تغيرا ملحوظا في عهده . فالسياسة الخارجية الفرنسية لا يصنعها رئيس ولا وزير أو رئيس وزراء مهما علا شأنهم, إنها صنيعة مؤسسات عريقة وتقليد راسخ ووفاق وطني يتخطي الأشخاص والأحزاب.
* نقلا عن جريدة الخليج الإماراتية